استراحة داخل صومعة الفكر عندما يعزف الرصاص عبدالرحمن العشماوي سعد البواردي
|
أخي الدكتور عبدالرحمن العشماوي لغزارة شعره استطاع أن يقدم لنا وجبة شهية وغنية بموادها الغذائية نفطر عليها .. ونتغدى بها .. ونتعشى منها .. وهي مائدة شعورية أطباقها إيمانية تارة .. وإنسانية أخرى .. وسياسية ثالثة كما هي الحال بالنسبة لشعراء محددين تملكوا ناصية الحرف فأشبعوا .. وأمتعوا .. ترى أي طبق سوف تتناوله مداركنا هذه .. سمك. لبن. تمر هندي بتشكيلته اللذيذة .. أم أن طبقاً أحادي الجانب يتفرد بطعم واحد .. ونكهة واحدة .. ولون من الزاد لا يقبل مشاركة زاد آخر؟!
الكتاب يقرأ من عنوانه هكذا يقال .. ليس دائماً .. طالما خدعتنا العناوين وخانتنا المضامين .. وأجزم أن شاعرنا يدرك هذه الحقيقة ويعي أن الشعر شعور بوهج لا يحرق .. وإنما يخترق مكامن النفس بإيحاءاته وإيقاعاته الجمالية .. هذا ما سنتعرف عليه من خلال هذه الرحلة مع ديوانه (عندما يعزف الرصاص) أي عندما يتحدث القصاص في معركة الحياة التي لا تقبل الذل ..
(هؤلاء الأبرياء) .. من هم؟!
ما حكايتهم؟!
(في أفغانستان آلاف الأبرياء يقتلون ظمأ
هؤلاء الأبرياء ..
غنِّ يا فجر لهم لحن الضياء)
جميل أن يغني لهم الفَجر بفتح الفاء .. وليس الفُجر بضمها الذي لا يعزف على أوتار الضياء .. بل داخل أوكار العناء والشقاء ..
(واكتبيهم في سجل الدفء يا شمس
فقد جاء الشتاء
زمر الأطفال تمضي .. والنساء
ولدوا فوق بساط الخوف
في مهد الشقاء)
هكذا يتحدث عن شعب ظامئ لا يشرب .. ليت ان الظمأ جاء ظمأ ماء إذن لهان الأمر رغم مأساويته .. إلا أن الصورة أكثر قتامة من عطش .. إنها أيضا مأساة بطش متوحش تسيل الدماء .. وتزهق الأرواح .. وتفتح الجراح حتى لأولئك الذين يجدون الماء ولكنهم يواجهون ظمأ مصيرهم برصاصات الغدر والغطرسة الشرسة ..
(هؤلاء الأبرياء يمضغون الخوف والجوع ليحيا الوجهاء
وليحيا ساسة الظلم .. ضحايا الكبرياء
كان بالأمس لهم مال وفير
ورياش .. وحرير
ونهار يرسم الشمس على وجه الغدير
غرقوا في لجة الموت الرهيب)
ذكرتني مفردة (كان) بتلك الأغنية الحالمة التي رجعتها نازك بصوتها الشجي الندي:
(ما تقلش كنا. وكان يا ريت دا كله ما كان
يا ريت ما شفتك ولا عرفتك ولا كان جمعنا مكان)
هكذا يسترجع الشعب الأفغاني المعذب بخصوماته القبلية والعشائرية ذكريات أفغان الأمس يوم ان كان وطنا مزدهرا آمنا تخيم على أبنائه سحابة حب .. بعد أن خيمت عليهم سحابة حرب أتت على الأخضر واليابس .. بأيديهم .. وبأيدي الطامعين في مقدراتهم .. وفي خبراتهم .. ولات ينفع الندم ..
(هرات) مدينة أفغانية وقفت كما يقول الشاعر وسلسلة من الأفكار تربطها على جذع السهر ذات ليل مطبق بسواده .. الصور من حولها مختلطة .. ويد الأفول تجز ناصية القمر:
(وقفت وفي أعماقها شوق إلى فجر. وعصفور. وزهرة
وقفت هرات وفي محاجرها دموع حائرة)
لماذا لأن الليل لم يسمح بنقطة ضوء هاربة من جلبابه الأسود .. حتى النجوم توارت عن سماء المدينة .. حتى السكينة روعها الظلام وأدمى أقدامها .. بعد أن كانت صبية فتية فاتنة الحسن .. أبية مرهفة الوجدان والحس:
(صارت تسير القهقهرى
وغدت كرامتها تباع. وتشترى
والمعتدون. المعتدون يلقنون النار أغنية الجنون
يا ويلهم .. كم يظلمون)
تلك هي قصة الإنسان التائه بين دربه الموصل إلى الأمام .. وبين الحرب المفضية إلى الركام وشبح الموت ..
(تبكي هرات .. وتستجير ..
تدعو .. ولكن من يجيب
وتكاد تخنقها الدموع
يا غائبا عني .. أما حان الرجوع؟)
الهاربون من جحر نارها أملا في النجاة .. ابتلعهم طريق المأساة .. لم تكن هرات وحدها التي تتعذب .. كل المدن استغرقتها الحرب المجنونة .. ولات مهرب
(المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار)
يا هرات .. لست وحدك في المأساة .. مدن البوسنة والهرسك شقائق المعانات .. مدن فلسطين .. والشيشان يدمرها الجناة .. بل وعلى مقربة منا تقصف رعود .. مطرها يأتي على الأخضر .. واليابس .. بأس شديد ظالم .. ويأس من أن تنزاح سحب المظالم في عالم تستهويه الدماء .. ويطربه الدمار .. ليل يا هرات دون نهار .. هكذا حكم القوي المفتون بعضلاته الفولاذية ..!
(وسام العز في وجه عائشة) طفلة أفغانية كانت ذات يوم قرة عين لأبويها .. استشهدت أمها على يد الوحوش .. لم تسلم الطفلة من الشظايا في وجهها .. اخترقت جزءا من ثغرها وأنفها .. تحولت عائشة الجميلة بلا ثغر .. وبلا أنف:
وتأتي الحكاية من البداية إلى النهاية:
(تراءى الليل. واهتزت خيوط الشمس. واحمرت ملامحها ..
مضى يوم .. كأن الرعب يمطه مطا
ويحفر في صحاري البؤس مقبرة ..
ويدفن نوره فيها
ويفتح باب قريتنا لليل لا حدود له ..
مضى يوم .. وكل الراحلين أتوا ..
وكل القادمين أتوا ..)
الراحلون يا صديقي (مضوا) .. لم يأتوا بعد .. هكذا يوحي شعرك .. وهكذا نمضي مع والد عائشة وهو يخاطب عائشة الجريحة:
(مضى يوم ونفسي يا منى قلبي
معلقة بخيط من خيوط الوهم
أسأل عنك قريتنا
وأسأل عنك منزلنا الذي تاهت معالمه
أسائل عنك مزرعة زرعناها
وأجرينا بها عرق الجبين الحر أنهارا)
يسترسل في مساءلاته .. بل في سؤالاته .. ماذا بعد؟!
(وجاء الليل يركب متن ظلمته
يجر وراءه جيشاً من الأوهام
جراراً .. ويبني دون نور الفجر أسوارا
وفي يمناه مطرقة .. كأن الموت أسهم في صناعتها
وفي أحشائه نار من الأحقاد)
في هذا الجو المسكون بوحشته ووحشيته ينادي والد عائشة أم عائشة مخبرا إياها بآلامه .. بعد أن فارقته الشمس وألقت به مكتوفا في بحر من الظلام راغبا إليها قراءة وجه عائشة حيث صور حبهما .. متسائلاً:
(تراكِ نسيتِ طفلتنا؟
نسيتِ رنين ضحكتها؟)
ويظل الأب يدعو ويدعو ونداؤه يذوب في فمه دون جواب .. ويمضي عام .. ويعقبه آخر والأحداث من حولهم عاصفة .. عائشة يراودها الصبا بعد الطفولة .. ملامحها ترسم صورة فينوسية على وجهها .. وتهب العاصفة .. يتجمد ماء الحياة .. تتعرى الأوراق على قبضة الخريف المخيف .. إنها عاصفة الدمار:
(تهب ساخطة. رداء الرعب يستشري
وعائشة تداري ما تثير الريح عن فمها
وخيمتها تكاد تفر من وجه العواصف حين تلطمها
وثارت حولها نيران قنبلة
وطارت نحو عائشة شظاياها)
عائشة كانت صامدة متحاملة على جراحها .. تقول:
(رويدك يا أبي الغالي .. تراني في الأسى وحدي
أذوق نكاية الباغي .. ألم تسمع .. ألم تبصر
فلسطين التي ضاعت .. فكم من طفلة ماتت) .. إلخ ..
وبدوري أقول لشاعرنا العشماوي: كم علامة استفهام أهملتها وهي لازمة لزوم الفكرة.؟! القصيدة في سردها القصصي جميلة .. وإن لم تخل من المباشرة .. وتراكم الكلمات الوصفية أكثر من اللازم .. (عندما يعزف الرصاص) صوت جسور اختاره الشاعر كجسر يوصلنا إلى دلالات عنوانه حيث اختار
(نُسبى. ونطرد يا أبي ونباد
فإلى متى يتطاول الأوغاد؟!)
هل بمثل هذا السؤال يُسأل؟ إنهم سيتطاولون إلى حين من يلقون إيقافهم عند حدودهم .. بل أمام حدودنا المهددة بالاختراق؟
أنى اتجهنا يا أبي ظهرت لنا
إحنٌ يحرك جمرها الحساد)
حسنا لو جاء شطرك الثاني على هذا الشكل .. (إحنٌ تحرك جمرها الأحقاد) الأحقاد أكثر شمولية وتوافقاً مع الواقع رغم سلامة المعنى .. يمضي شاعرنا بلسان ذلك الابن وهو يخاطب أباه:
(أوما ترى من فوق كل ثنية
صنما يزيد غروره العبّاد
نصْحُو على أصوات ألف منصِّرٍ
عزفوا لنا أوهامهم فأجادوا
جاءوا وسيف الجوع يخلع غمده
فشذوا بألحان الغذاء وجادوا
أما دعاة المسلمين فهمهم
أن تكثر الأموال .. والأولاد)
مطلوب علامتا تعجب (!!) بعد مفردة العبّاد! و (الأولاد!) للسخرية التي تثير العجب .. وعلى نفس الوتر .. بنفس الشكوى .. وبنفس الصور يستعيد شاعرنا الاسقاطات .. والاحباطات .. والمعاناة .. والتساؤلات .. في إطار تقليدي وصفي .. مذكراً .. ومستذكراً .. ومستنفراً الأحبة الغائبين .. والإخوة المستكينين .. فلا النخوة هزت .. ولا الشهادة استفزت مكامن الخوف .. متحسراً على أمجاد الماضي .. وجهاد الماضي .. وجهد الماضي:
(ها نحن يا أبتي يسير وراءنا
ليل. له فوق السواد سواد
ها نحن يا أبتي نبيت هنا. ولا
طنب لخيمتنا .. ولا أوتاد
أهو القنوط يهدّ ركن عزيمتي
وبه ظلام مخاوفي تزداد؟)
يبدو انه وضع الإصبع على الجرح .. وصرخ .. الخيمة لا تصمد أمام غضبة ريح مهما كانت مشدودة على أرضها .. والقوة وحدها تلك التي تملك وقوفها شامخة تتحدى الأعاصير متى وجدت.
(أشلاء أغنية حزينة) مقطوعة شعرية مقطعة الأوصال كما يدرج على ذلك شعراؤنا المحدثون .. تتحدث عن أنقاض مدينة (فرح) الأفغانية لا تختلف في جوانبها عن محطات مررنا عليها تناولت المأساة الأفغانية إبان التواجد السوفياتي على أرضها .. والذي لا يختلف عن أي احتلال بديل ينال من حرية أفغانستان واستقلاله .. نتجاوز هذه القصيدة إلى أخرى بعنوان: (من أين أبدأ رحلتي؟) .. كانت مفاجأة لي على الأقل ونحن معا نكاد ننهي الرحلة مع الشاعر العشماوي .. وكأنما أراد مداعبتنا .. ليكن.! فنحن لن نعود معه إلى الوراء .. ولكن من حقه علينا أن نتعرف من أين بدأ رحلته؟ لعلها رحلة مغايرة جديرة بالاهتمام!.
(تساؤلات طفل شردته الحرب
الليل مكتئب وقريتنا يضاجعها الخراب.
ونساء قريتنا على الطرقات يسدلن الحجاب
يخشين يا أبتي على أعراضهن من الذئاب
وبكاؤهن يشيع في آفاق قريتنا اكتئاب)
أين السلطات ..؟ أين القضاة؟ .. أم أن داء القرية منسوج داخل ردائها؟ هنا الخطر الذي برء منه .. الطفل بطل الديوان ومحاوره الأول أعطى لنفسه حق طرح الأسئلة .. ومن حقه لأن الطرف المهم في مجتمع يطحن بعضه بعضا من الداخل .. ناهيك عن الخارج الذي يحرك الفتن والقلاقل عن بعد آلاف الأميال بواسطة أجهزة ريموت الكنترول ويجد من يفك شفرتها .. ويغذي فتنتها ..
(ما بالهم يستأسدون ويطحنون رؤى الشباب؟
ويعربدون . وينشرون على الورى قانون غاب؟
ما بالهم في غيهم يتسلطون على الرقاب ..؟!
ما بالهم شربوا دماء الأبرياء بلا حساب؟
همج .. أليس لهم إلى البشر انتماء. وانتساب؟!
بشر!! نعم لكنهم عند الرغائب كالدواب
هم كالوحوش بدا لهم في حربنا ظفر وناب)
يا شاعرنا رفقا بالوحوش الضاريات إنها لا تهاجم إلا عندما تجوع .. أما وحوش البشر فإنهم مصابون بسعار القتل والتوحش وبطونهم متخمة لا يعرف الجوع إليها سبيلا .. هناك فرق: وحوش الغاب أرحم من الذئاب الناطقة ..
الطفل يطلب من أبيه أن يدله على السبيل كي لا يبتلعه التيه فيضل ..
(من أين أبدأ رحلتي .. ووجوه أصحابي غضاب؟!
يبست على دربي الخطا. وتنابحت حولي الكلاب
ستقول يا أبي: تصبّر. سوف تقتحم الصعاب
ستقول: لا تجزع فمثلك في الحوادث لا يهاب)
ماذا يجدي القول لمن لا يملك شجاعة العمل؟! ولا تحقيق الأمل؟ .. ويقفل والده القصيدة بشيء من التفاؤل القلق:
(وإلى متى هذا السؤال؟ وعندنا نحن الجواب
سنسد باب الظلم يا ولدي. ونفتح ألف باب)
يكفي باب واحد هو باب الحرية .. حيث العدل .. والحق .. والحياة ..
(يا رافعاً علم الجهاد) نهاية المطاف مع شاعرنا عبدالرحمن العشماوي الذي أفرد ديوانه .. (عندما يعزف الرصاص) على القضية الأفغانية في حقبة مضت لا تختلف كثيراً عن حقبة تلت .. كلتاهما حقبتان من الصراع الداخلي .. والتداخلات الخارجية .. هذه المرة يحيي أحد رموز النضال الوطني الأفغاني .. يقول له:
(خذ من يقينك مركبا تنجو به
وتصد عن أعمى. وعن متعامي
لو ان سيفك في يدي متخاذل
أو قاطع لأواصر الأرحام
لو ان سيفك في يدي متواطئ
أو خائن .. متذبذب. متعامي
ما ارتد عنك الكفر في نظراته
رعب. وجيشك ثابت الأقدام
ميزت وجه الليل من وجه الضحى
فمضيت لم تحفل بكل ظلام)
هذا خطاب الأمس .. أين خطاب اليوم يا صديقي؟! سيفك وسيافك محاصران بسيوف أقوى وأعتى بطشا .. شتان ما بين الأمس واليوم ..
(امدد يديك إلى حبال رقابهم
سترى سراة القوم كالأنعام
هم يحلمون بضم ليلى خلسة
وبشرب كأس تحت جنح ظلام)
هذا ما يحلمون به .. ترى ماذا كان يحلم فارس شاعرنا بالأمس؟!
(وأراك تحلم أن ترى علم الهدى
يعلو .. وان تبنى ذرى الإسلام
ما زلت اقرأ في سجل جهادكم
ما أغفلته وسائل الإعلام)
وسائل إعلام متغيرات اليوم أكثر إغفالا بل تضليلا من وسائل إعلام الأمس .. صوتها وحده هو الذي يعلو ويسيطر .. ويُسمع .. لأنه صوت الأقوياء .. أما صوت الحق فإنه مبحوح ومجروح .. لا يكاد يلتفت إليه أحد إن سُمع ..
(نبغي السلام .. نحن بسيف عدالة
نبني سلاما .. لا ككل سلام) ..
هذا ما نريده ونتطلع إليه جميعاً كشعوب يحكمها الوفاق .. ويتحكم في خلافاتها ميثاق العدل .. أما ما يريد الموتورون ومصاصو الدماء فمختلف .. انهم يحسبون الأرض ومن عليها عزبة خاصة بهم .. وحقلا يقطفون ثماره دون سواهم .. والويل كل الويل لمن قال (لا) .. إنها مفردة لا وجود لها في قاموسهم الا عندما نخاطبهم ونناشدهم حياة مشتركة لا صقور فيها ولا حمائم .. لا حروب فيها ولا غنائم .. هنا يبرز حرف اللاء مشرعا فوق فوهات المدافع وقاذفات الصواريخ .. وأجنحة طائرات الموت .. حسنا جاء ديوانك الذي سبقته الأحداث .. وتجاوزته .. إلا أنه عاش وعايش مرحلة من نضال أمة مسلمة ما زالت تواجه مرحلة من أخطر مراحل مستقبلها.
الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|