الأسطورة والذاكرة الشفوية سهام القحطاني
|
( أنا الإنسان أنا اللا شيء)
بول فاليري
حينما تتجاوز الحقيقة مساحات العقل المبرمجة الواقفة فوق مساحة شطرنجية برقاع اللونين.. حينها يحمل الخيال رحاله متجاوزاً حدود التصور المتشطرنج بلونيه المتضادين المثبتين، من هنا يدخل الخيال عوالم العجيب والغريب سابحاً في أفق الفوطبيعية، التي تؤلف متخيل الحكي المعوض الأول لتكيف المرء مع ميتافيزيقية الحقيقة الإلهيّة بكل تشكلاتها الكونية بما فيها ذات المرء الخاصة المفطورة على شكية المتواجدات.
ولعل بعض تشظيات رحلة التساؤل المغموسة داخل نطفة ذلك المجهول المفلّك خارج كوكبة فعل اليقين، التي تواجهنا في افتتاحية هذا الموضوع، أيهما يمثل فوقية المدرك، العقل أم المادة؟
وهل للأشياء مفاهيم نهائية ترسّم أطرافها وفق أشكال العوالم التي تقبع بين حدود مداركنا وفق قوانين الطبيعة، وتزيح الفوطبيعية إلى قوارير العجيب والغريب لتظل مجرد حالة حضور استثنائي خاص لقولبّة زيّ متفق؟
لا شك أن التمرد على الزيّ العقلي بوصفه مقاييس معللة لمسوغات الظواهر والعلاقات ونتائجها، من حيث ارتباطاتها بمادية التكوين والأشياء بما فيها الإنسان كطاقة لذلك التكوين وإنشاء روابط أفقية ورأسية مع الآخرين ضمن منظومات متشابكة تخضع معطيات أغلبها لقانون غير طبيعي، (ومن نافلة القول) أذكر أن القانون الطبيعي مفهوم لا يقتصر على النظرية العلمية، بل يشمل حينا ما تآلفنا وتعارفنا وتعودنا عليه، وهذه الإزاحة غالباً ما تمثل عند مجتمعات العالم الثالث فرضية الاعتقاد، إذ إن القانون الطبيعي هو منهج تفكيري رفيع المستوى ثم الثورة على سلطة القانون العاجز لتفسير الخوارق التي يتوهمها المرء لإيجاد تأويل للقدرات اللا طبيعية وتنظيم لتوظيفاتها الميتافيزيقية نتيجة انزلاق الظاهرة أو العلاقة أو القدرة أي الاختلال في علاقات القوة المادية وغير المادية، وان اعتبرنا ذاك الأمر متفق مع بدايات المغامرة العقلية لفعل الاكتشاف وتأويل الظاهرة الميتافيزيقية، وهي بمثابة قابليات ممكن أن تزيد من فهم الإنسان لنفسه، في ضوء وعيه بالموجودات إذ يظل الوعي ذاته ظاهرة مرتبطة بالدماغ بشكل ما، عجزت عنه البارسيكولوجية من تحديده.
ومن هنا نشأت الأسطورة كممارسة تفسيرية تأويلية معينة على تحديد ما يمكن من ملامح القوى غير المدركة، والحقيقة أن نظريات ارتباط الأسطورة ببذور ماهية النشأة تعددت وهي:
النظرية الدينية
وتقوم على أن الأساطير عبارة عن طقوس تمارس لاسترضاء قوى الطبيعة التي كانت بمثابة الفاعل المقدس في المجتمعات القديمة، فالمجهول الذي اكتنف الموجودات وخاصة تلك التي تتفوق على مساحة المدرك التحصيلي للمرء، هو الذي دفع إلى إيجاد تلك الممارسات بطقوسها المختلفة اتقاء لشرور ذلك المجهول واستجداء كرامته في العطاء والحماية من غضبه بتعاويذ ذات صبغة شكلانية حركية ارتبطت بوقت ما بجيولوجيا المكان وطوطم علم الحيوان والتي أسهمت فيما بعد في بلورة الفن المسرحي، وتزعم هذا الرأي جيمس فريزرن كما تتكئ هذه النظرية على قصص الكتب الدينية المحرفة فشمشون الجبار ما هو سوى هرقل الطاغي، وديوكاليون ابن بروميثيوم الذي أنقذه زيوس مع زوجته من الغرق فوق أحد الجبال ما هو سوى نوح.
أما النظرية التاريخية، فتقوم على ربط نشأة الأساطير بالتاريخ فيرى أنصار هذه النظرية أن الأساطير في أصلها عبارة عن وقائع احتفظت بها الذاكرة الإنسانية لأشخاص هم حقائق ذات وجود مؤكد وأفعال انطوت على قدرات البطولة والمغامرة، إلا أن خيالات الشعراء هي التي أضافت لهم التأطير الأسطوري لتحولات افعالهم، وأن التميز بين التاريخ الأسطوري والتاريخ الوقائعي هو فعل معاصر، وهناك من يرى تعقيبا على علاقة الأسطورة بالتاريخ، إن محمولات التاريخ التي تتكئ عليها الأسطورة ليس بالضرورة تاريخ حقيقي، بل هو التاريخ كما حسبه الناس لا كما وقع، أو اعتقدوا أنه قد حدث في أوقات متفرقة من ذاكرة التجمعات البشرية الممتدة عبر شفوية الانتقال.
أما النظرية الرمزية فتقوم على أن الأساطير عبارة عن مجازات فهمت بصورة خاطئة إذ إن الأساطير هي فعالية مجازية تتضمن الحقيقة بزيّها المختلف، التاريخي والأدبي والفلسفي والديني، ولعلي شخصيا أميل إلى رأي (تايلور) الذي يذهب إلى أن أنها، من صناعة إنسان المجتمع البدائي الذي حاول من خلالها تفسير تكوينات الموجودات وخاصة العلوية، فممارسة الطقوس الدينية كما يرى تايلور تخرج عن كونها أشكال ظاهرية، لتعبر عن أفكار خاصة تنبثق من خلال وسيط تخيلات متعددة للمخلوقات العلوية، التي تستمد من الأسطورة تشخيصها لتقدم يقينا للوجود الذاتي لما يستغلق عليه من تعاريف للماهية الفاعلة، من خلال رمزيّة الفكرة أو المفهوم المجرد للقوى المادية.
أما النظرية الطبيعية فتقوم على تخيل مفردات الوجود ذات القانون السلطوي كالماء والهواء والنار في هيئة شخوص وكائنات روحية تتدثر عبر الشكل المعروف للمدرك الانساني والخبرة المستهدفة، (البحر والشمس والقمر)، وبذلك تتبنى الأسطورة تأويل المجهول وتمثل لأفعاله عبر ممارسات مخصوصة تنفذ كطقوس تقدم تعريفا لذات المعتقد وهي بذا تمنحه طبيعة الروح..
وهناك عبارة للباحثة جين هاريسون، تذهب إلى أن الأسطورة (هي التفكير الحالم لشعب من الشعوب تماماً مثلما يعتبر الحلم أسطورة الفرد) وقابلت بينها وبين عبارتين أولهما لميرسيا إلياد الذي يقول إن الميثولوجيا تحاول تفسير الأصل والبداية، وثانيهما: لجان بيار فرنان الذي ذهب إلى أن الميثولوجيا ليست أكثر من ميثولوجيا ولا علاقة لها بتفسير أصول الكون والإنسان، والحقيقة أني توقفت طويلا أمام عبارة جين هاريسون، لأني شعرت بأن عبارتها تخرجنا من مجال قصدية التفسير، وهو الأساس القائم عليه نشأة الأسطورة (كما أحسب) وتدخلنا مجالا آخر وهو مجال الانزياح كتعويض غير مباشر لتخيل خارجي، وهنا حاولت أن أجد مخرجا لها عن طريق النظرية النفسية، ففرويد ومن سار على منهاجه يرون أن أحلامنا المعاصرة ماهي إلا مجرد امتداد للأساطير وللحكايا (الأساطير) خصوصاً، من حيث هي تتضمن نوازع النفس البشرية وخلاصة تحولاتها وتوقها إلى الخلود، أما جوزيف كامبل، فيرى أن الأحلام هي تماثل لمستويات الأسطورة التي تشكل ذوات المرء في اللاوعي ويشبه الأمر كالآتي:
هبوطاً نحو العالم السفلي كأسطورتي (إنانا تموز)، أو صعوداً كأسطورة (سيزيف وسواه)، أو في مجاهل الأرض، وصولاً إلى طرفها الآخر الخفي. ضمن قصدية التعرف على الذات، أي رحلة الاكتشاف من أناها العليا إلى أناها الداخلية؛ مغامرة لسبر مجاهل اللاوعي، من حيث إن الوعي وحده تجربة غير ناجزة، ولن يفضي إلى تلك المعرفة، معرفة الكشف سوى عودة البطل الأسطوري من رحلته، وقد امتلك التجربة التي يعيد بها خلق العالم من جديد، في الوقت الذي يعيد فيه ترتيب عالمه الداخلي، ولعل هذا التفسير يقربنا نسبيا من عبارة هاريسون، إن كان مقصدها ما ذهب إليه اجتهادي.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|