المسلَّم الجمالي..والتصعيد الحسي نادر عبدالله *
|
لقد رأيت بعيني كيف تُقبل النساء خاصة على دواوين نزار قباني لحظة شرائها إنها لحظة لشدة ما هي متكررة ومتشابهة، تكاد تكون مصطنعة، وربما هذا ما جعلني أتأكد من أن الاصطناع أي تلفيقة السلوك هو أصلاً محاولة للاقتراب بالسلوك، من مشهد سلوكي أصيل، لا يتكرر كثيراً، وبالتالي فإن محاولة الاقتراب منه، أو خلقه من جديد في سلوكنا، يجعل سلوكنا مصطنعا في الغالب، لأن المشهد الأصلي ببساطة تتجسد صدقيته بتلقائيته. والتلقائية هي ناتج عفوي عن المنظومة الحسية، والشعورية للإنسان، المنبثقة من ينابيع الجمال والحس أو الشر الأصلية.
وأيضاً من أجل الإقبال النسائي لحظة الشراء على دواوين نزار تبين لي أن ينابيع الجمال داخل الإنسان موحدة، فالناس بطبيعة الحال، وبالاتكاء على هذه الينابيع الجمالية الموحدة، تلتقي بردود موحدة من حيث الجوهر حول ما هو حسن في الطبيعة والإنسان، أو أقصر الأشياء المعروضة بوضوح ودون لبس في الطبيعة والإنسان.
لكن كون الفن صناعة للجمال، وهو بطبيعة الحال يشتمل على أشياء ملتبسة، ومبهمة، وغامضة، وحسية، وما إلى ذلك من أشياء غانمة، فإن معيار جودته تحدده قدرته على درجة نقله هذه العناصر الملتبسة إلى أقرب ما يمكن من موقع تلك الأشياء الجمالية المعروضة بوضوح في الطبيعة والإنسان. عندئذٍ إذا تحقق الالتقاء، يكون قد تم نقل المادة المشغولة إلى مسلمات الجمال الإنساني، فترتبط عندئذ داخل البشر بتلك الينابيع مباشرة، ويكون الفنان بذلك، قد فتح تلك الينابيع الأصلية للجمال عند الإنسان على أهواء جديدة، لم توفرها الحياة الفطرية في الإنسان والطبيعة، وهكذا ببساطة تتجسد لنا خطورة الفن وأهميته، والأهم من ذلك السرور الذي يقع على عاتقه في مسعاه الجمالي، نحو توصيل الكائن إلى تفهم، وتقبل، وتعايش مع الصادم والعصي، والمتعذر.
(2)
الملتبس يدفع إلى أشياء عديدة، منها مأوى بسيط، ومنها مأوى معقد. وباعتقادي أن العيش الحسي للإنسان هو أكثر الأشياء تعقيدا على الإطلاق. قد يعمل الاشتغال الجمالي عليه إلى تغيير حياة الإنسان جذريا في المستقبل. على أية حال فإن هذا الموضوع، أي نقل السلوك الإنساني إلى مستوى الحس، هو مهمة الفن والجمال، كون الفن هو الذي نُذر لهذه المهمة العظيمة، وهي تحويل الحس من شعور غامض ومبهم إلى فعل وممارسة إنسانية، فهو لن يقوم بهذه المهمة دون أن يحول الحس إلى جمال يصطف إلى
جانب المسلمات الجمالية.
(3)
المثقف نظرا إلى نزار قباني مثلا على أنه اشتغل في حدود الالتباس البسيط، لذلك فضل عليه اللغة الشعرية التي ذهبت باتجاه تصعيد الحس وتشظيه رغم عدم تمكنها من تحويل هذا الالتباس التصعيدي للحس بالنهاية إلى جمال مسلم وإن صح التعبير. لذلك فإن أكبر مشكلة باعتقادي تواجه المعيار الشعري اليوم هي هذا الفاصل الذي يجب أن يصير على ما بين التصعيد والاشتظاء الحسي الذي يعمل عليه جميع الشعراء، وبين تحويل بعض هذا التصعيد الحسي إلى مسلم جمالي، كما حصل مع نزار. ولا شك أن التصعيد الحسي الملتبس والمبهم هو شرط أساسي ودورات لابد من الدوران بها للوصول إلى بعض المسلم الجمالي. ولكن قد لا يستطيع الوصول إلى هذا التصعيد شاعر مهول كمحمود درويش لذلك يمكن ببساطة أن نقسم الشعراء مثلا إلى قصمين: قسم وهو الغالب يظل منحصرا في حقل التصعيد الحسي وهؤلاء يجب وضع معايير خاصة بهم تحدد درجة تصعيد كل شاعر. وقسم آخر وهو نادر في التاريخ يكون تصعيده الحسي أقل ربما لأنه يبدأ على الفور بتحويل ذلك إلى مسلمات جمالية.
(4)
مما لاشك فيه ان الجمال خادم للعقل، ومضاد وعدو له في نفس الوقت. فعندما يكون مسلما يكون خادما، وعندما يكون تصعيديا يكون عدوا. وهذه العداوة هي ناموس الوجود والحياة والمحرك الذي يقودها باستمرار إلى الأمام. وإذا كان المثقف يميل للاشتغال في حقول التصعيد فإن البشر بشكل عام يميلون للعيش في حقول المسلمات الجمالية والخالدة التي منحتها الطبيعة، وتلك التي تم قتلها وتحويلها. غير أن المثقف لا يركن إلى مسلمات عصره أي المسلمات الجمالية التي ينتجها عصره ببساطة لأنه لا يثق بعصره يحتاج إلى أسطرة من نوع ما يلقيها ليثق بانجازه، وهذا يحيله إلى التخييل المضني أو إلى الأفكار، وفي الغالب الأعم تكون أفكاره منشطرة مثنوية غير متوائمة.
إن المثقف يقضي كل حياته يبحث عن وئام ما من خلال التصعيد، لكن هذا التصعيد لا يفضي به إلا إلى انشطار متكرر ودائم.
الانسان العادي يقضي حياته كلها في مشاغلة كل المسلمات دون أن يتمكن من افتضاضها أو استهلاكها أبداً.
بينما المثقف الذي يظل ماضيا في التصعيد معرضا عن كل هذه المسلمات الجمالية، فإنه بالحقيقة لم يكن باحثا إلا عنها لكنه لن يراها
إلا بالأيام، حيث عندئذٍ يعود ويتصالح مع الكثير مما رفضه في الماضي. لكنه عبر هذه الدورة التي أفنى حياته فيها ينجز فيها شيئا من الحكمة ويزود العقل بوشائع جديدة في المعرفة، وشائع ما كان للمسلمات الجمالية أن تنجز عبر الزمن بدونها. إن المثقف إذاً بالنهاية هو خادم الناس على الدوام.
(5)
ذات يوم وأنا أبيع الكتاب في الشارع وقف بجانبي رجل أربعيني. كان ذلك في مساء شتاني وكنت منحنيا أجمع الكتب في أكياسها تأهباً للإنصراف، وكنت عبر سنوات خلت قد بت أميل للإعتقاد أن رجلاً في هذا المشهد الذي نعيشه يمكن أن يثير أحلامي الأولى التي قادتني إلى عفس رهيب في العيش، ورحت أوطن نفسي على الهدوء والأناة والاستعداد والمثابرة للاشتغال على الحياة كإشكال لغوي، وفجأة وقف هذا الرجل فوق رأسي يسألني عن كتاب ما، وعندما إلتفت إليه وعبر لحظة تفجر في داخلي على نحو مجنون كل ذلك الجوع لقلب العالم وتغييره.
كان الرجل يرتدي معطفاً طويلاً مهيأ لمسافات طويلة، عبر وعر لا متناهٍ ولاحت لي ملامحه عبر ظل الليل أسطورياً على نحو رهيب.
إذاً فإن المسلمات الجمالية في الحياة كما في الفن يمكن أن تقلب حياة الإنسان وبلحظة واحدة رأساً على عقب. إن التصعيد وحتى الأفكار تحدث إنزياحات لكنها ليست إنقلابية، وغالبا ما يعاد ويتم عقلنتها، وإذا كانت الأفكار تصل في بعضها إلى الانقلابية فإنه انقلاب ضمن سياق الانزياح نفسه، أي على نفس الأرضية، أو قيادة النسق نفسه إلى سكة جديدة، بحيث أن السكة الجديدة تغير تدريجيا المنطق الأساسي للنسق. في حين أن المسلمات الجمالية تظل دائما بؤرة لجموح العواطف إلى نهاياتها حيث يحصل عندئذٍ انقلاب جذري في حياة الفرد. نلاحظ هنا أن التصعيد والأفكار رغم إنهما اشتغال فردي إلا أنهما يستهدفان أشياء عامة، أنساقاً، أنماطا، بنى، منظومات معرفية عقلية. فيما المسلمات الجمالية تستهدف الأفراد لكنها في ذات الوقت قد تصل من خلال الأفراد إلى تغيير عام في الكلي والنمط.
إذن نلاحظ من خلال ذلك أن ثمة نمطين من التفهم في حياة الشعوب، النمط الذي يحدثه التصعيد والأفكار وهي تصب غالبا في خانة البنى الفوقية، ويفترض أن تنعكس في صياغة القوانين التي تتفهم الطبيعة الإنسانية وحراكها، دون أن يكون الشعب على مستواها في الفهم والتفهم. والنمط الثاني هو المسلمات الجمالية وما تصبه من تفهم مختلف داخل الفرد والشعب على نحو مباشر، وغالباً ما تتأخر البنى الفوقية عن احتضان هذه المسلمات في مصباتها وخاصة مسلمات عصرها.
* روائي فلسطيني مقيم في دمشق
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|