نَقْدُ القيَم مقارباتٌ تخطيطية لمنهاج علميّ جديد «6» د. عبد الله الفَيْفي
|
ما مصادر القيم وكيف تنشأ؟
وإذ تثير (موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية)، 1: 45، (الرياض: دار رواح، 1421هـ= 2000م) هذا السؤال المركزيّ حول (مصادر الأخلاق ونشأتها)، وهل مردّها إلى الأديان، أم التربية، أم البيئة، أم الثقافة، أم الطبقة الاجتماعية، أم أنها هِبَةٌ فطرية؟ ثم تعرّج على أن ذلك لدى علماء الاجتماع ودارسي الإنثربولوجيا لم يعد مركوناً فيه إلى التخمين ولكن إلى المناهج العلمية القائمة على التجربة والاستقراء، مشيرة إلى ما دفعت إليه الحياة الحديثة من نقدٍ قيمي، تحت وطأة مؤثرين عالميين يتمثّلان في الاقتصاد والاتصال تنتهي إلى كلام إنشائي هلاميّ يقول: (مردّ الأخلاق إلى النفس الراضية المطمئنة التي تنمو في رضاها واطمئنانها شجرة الفضائل الكريمة، ولا يكون ذلك إلا بالتربية السليمة والتنشئة المنضبطة مع أعراف المجتمع وفضائل الأعمال. أمّا من تخلّى عن الأخلاق فإنه لا يجد مغزًى لحياته إلا في حدود النفعية الضيقة التي تؤول إلى ميلاد الشخصية الممقوتة.) وهو كلام إنشائي هلاميّ لأن التربويّ والناشئ معاً سيقفان أمام أسئلة كأداء عن هذه (النفس الراضية المطمئنة)، كيف لها أن تكون؟ ثم كيف لشجرة الفضائل الكريمة أن تنمو في رضاها واطمئنانها؟ ثم لن يجدا غير عبارتين شعاريّتين هما: (التربية السليمة، والتنشئة المنضبطة مع أعراف المجتمع وفضائل الأعمال.)
ولقد كان سبر المصادر المؤثرة في القِيَم، قديمة أو حديثة، حَرِيًّا بأن يأخذ مداه من المناقشة والتحليل، لولا أن انصراف الموسوعة هذا إلى تلك العبارات النمطية يمثّل في ذاته قيمة عربية سائدة، تنفر من العلميّة إذ تركن إلى الخطابيّة. ولو عاد الأمر بكلّيته إلى سؤال أوليّ: هل القيمة مجّانية؟، أي هل الإنسان يتحلّى بقيمة ما دون مقابل معنويّ أو ماديّ؟، لتبدّى أن القِيَم في المجتمع البشريّ، وفي الممارسة الغالبة، ليست بمجّانية. لأنها كما تقدّم في مساق مضى تضارع القيمة
التبادلية التجارية، ينتظرُ منها ممارسُها عِوَضاً ما، معنويًّا أو ماديًّا. فالشجاع ينتظر عِوَضاً عن تضحيته، والكريم يتوقّع مقابلاً ماديًّا أو معنويًّا لبذله. ولهذا يظهر التفاوت بين ممارسة الفرد الشخصية وممارسته الاجتماعية. أي بين ممارسته بعيداً عن رقابة المجتمع وسلوكه في إطار المجتمع العام ورقابته. (انظر: الموسوعة، 1: 55 ). غير أن القِيَم الدِّينية والقيم الحضارية تسعى عادةً إلى الترقّي بالقِيَم الإنسانية إلى أن تكون بعيدة عن تطلّب المنفعة من وراء الالتزام بها، بحيث تتحول إلى دوافع ذاتية لا يتغيّر بها الحال بتغيّر حال ممارسها بين الانفراد والجماعية، كما تسعى إلى إحالة فكرة البدل والعِوَض إلى الإيمان بما يُرضي الوجدان الإنساني والضمير الحيّ، في الحياة الدنيا أو بما يُوعَد به الإنسان في الحياة الآخرة. وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} (سورة الإنسان: آية 9). فينتفي بهذا التطلّع إلى بدلٍ ماديّ أو معنويٍّ دنيويّ. وعليه يصبح وفق هذا المنظور الدينيّ تغاير السلوك، من حضور الرقابة الاجتماعية إلى غيابها، ضرباً من النفاق، الذي يمثّل قيمة سلبية يرفضها الدِّين والقِيَم الحضارية القويمة. وذلك هو السقف القيميّ المثاليّ الذي تسعى الأديان والحضارات إلى بلوغه. ولئن ظلّ بلوغه في واقع المجتمع البشريّ محدوداً أو نادراً، فما ذلك بمهوّن من تطلّع الأديان والحضارات إلى جعله هدفاً أسمَى لوجود القِيَم. وبناء عليه، تظلّ القيمة غير مجّانية، وإن كان ثمنها هدفاً روحيًّا أسمَى من المادة.
وسواء أقيل إن القِيَم وقائع اجتماعية أم حاجات نفسية، وأقيل: إن الدِّين هو محرّك القِيَم أو أضيف إلى الدِّين (الاقتصاد)، فلقد باتت القِيَم تُدرس في العصر الحديث، لا على أنها مثالية مجرّدة، بل على أنها حقائق اجتماعية تقوم على أصول سلوكية مشتركة في المجتمع، كما تجلّى ذلك في (فينومنولوجيا القِيَم) عند (ماكس شيلر Max Scheler) أو (علم اجتماع
المعرفة) عند (كارل منهايم K. Mannheim)، على سبيل التمثيل.
وتذكر الموسوعة أن محاولة الإجابة عن نشأة القيم ومصادر تلك النشأة التي لم توجد بشكل منظّم وجادّ وعميق إلا منذ منتصف القرن العشرين قد انصرفت عن الإجابة عن كُنْه القِيَم، لصعوبة الخوض فيها، إلى البحث في أسباب تغيّر القِيَم. مشيرة إلى أنّه باهتزاز المصادر القيمية التقليدية
كالدِّين، وتقاليد الأسرة، والقدوة، والتنشئة الاجتماعية، والتجارب، والخبرات الشخصية، ووسائل الاتصال، والدولة، والمؤسسات العامة، والفِكْر، والمِهْنة، والبيئة الطبيعية اتجه الاهتمام إلى مصادر القِيَم المتجدّدة والمولّدة لتغيّراتها، وذلك من خلال ثلاثة خطابات: الخطاب الفلسفي، والخطاب الأخلاقي، والخطاب الاجتماعي. فالخطاب الفلسفي كان يدخل عنصر الدِّين مع العقل والمجتمع وراء نشأة القِيَم. على أن (كانت) قد رأى العقل أساساً في تكوّن القِيَم، فكان نقده لقِيَم الحقّ والخير والجمال من خلال نقده العقل النظريّ، وهو نقدٌ لقيمة الحقّ، ومن خلال نقده العقل العمليّ، وهو نقدٌ لقيمة الخير، ومن خلال نقده الحُكْم، وهو نقدٌ لقيمة الجمال. فالعقل إذن هو مصدر القِيَم، حسب (كانت). أمّا الخطاب الأخلاقيّ فقد تأثّر بالثورة الصناعية الكبرى في الغرب، فظهرتْ اتجاهات فكرية ترى المنفعة والقوة أساساً للقِيَم. ف(أخلاق القوة والسُّلْطَة هي الأخلاق التي لها أن تسود، وعلى المجتمع أن يتقبّلها. أمّا أخلاق الضعف والخنوع والاستكانة، فلا قيمة لها ولا تقبل في أن يُحمل الناس عليها؛ لأنها لا يتوقّع أن يأتي من ورائها نفعٌ أو رأيٌ يُستفاد. ) (الموسوعة، 1: 90). وأمّا الخطاب السوسيولوجي الاجتماعي، فمن روّاد تطرّقه إلى موضوع القِيَم: الألماني (ماكس شيلر)، الذي يرى أن القِيَم لا تُدْرَك بالعقل وحده بل بحدس عاطفيّ أيضاً (انظر: م.ن. :1: 91). وكأن ثمة مَلَكَة إنسانية حسبما يسجّل (دوركيم E.Durkheim) عن بعض المفكرين بوسعها أن تدرك المُثُل العليا، وتقيس الأمور بمقياسها.
إلا أن دوركيم يسائل هذا التصوّر على أساس من نسبية المُثُل العُليا نفسها، واختلافها بحسب الزمان والمكان والمجتمع. منتهياً إلى ما يسميه ب(المُثُل العُليا الجمعيّة). فالقيمة تنجم عن العلاقة بين الشيء ومظهر من مظاهر المُثُل العُليا الجمعيّة. والمُثُل العُليا هذه قائمة في الطبيعة، ممكنة الإدراك. ومع أن قيم الأشياء بمعزل عن طبيعتها، فإن المُثُل
العُليا الجمعيّة لا يمكن أن تتكوّن ويشعر الناس بتجلّيها إلا من خلال أشياء يرونها أو يسمعونها.(1)
وبذا يعود دوركيم إلى فكرة المُثُل العُليا لدى (أفلاطون)، الذي كان يرى أن لكل شيء مثالاً جاء على غراره، وأن المُثُل انطبعت في النفس الإنسانية منذ أن كانت في عالم المُثُل قبل الجسديّة، وأن الشيء يدنو من قيمة الكمال أو يبعد بمقدار ما بينه وبين مثاله من شَبَه. إلاّ أن (سانتيانا)(2) وهو يتأمّل إشكالية القيمة الجمالية، تحديداً يرى تلك المُثُل وليدة التجربة الإنسانية، تتشكّل عبر جزئيات الصور الذهنية منذ الولادة، لتمثّل نماذج مثالية يقيس عليها الإنسان أحكامه بالقيمة الجمالية. على أن التجربة المختزنة التي تشكّل مُثُلاً عُليا تأتي عادة متلبّسة بالعواطف والذكريات النفسية حسبما يذكر (هيجل) (3) التي قد يكون بعضها على صلة باللا وعي الشخصي أو اللا وعي الجمعيّ، مما يجعل الغموض يكتنف مصدر القيمة في كثير من الأحيان، ولكن هذا الغموض بدوره يضفي على القيمة من السحر ما يزيد الشيء جاذبية، أو يلقي عليها من الإيحاش ما يزيد الشيء تنفيراً(4). (وللبحث اتصال، إن شاء الله ).
إحالات:
1 انظر: بيومي، محمد أحمد، (1981)، علم اجتماع القِيَم، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية)، 40 43
2 انظر: محمود، زكي نجيب، مقدمة كتاب: سانتيانا، جورج، (د.ت.)، الإحساس بالجمال: تخطيط لنظرية في علم الجَمال، ترجمة: محمد مصطفى بدوي، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية)، 22 23؛ ويُقارن: هيجل، (1978)، فكرة الجَمال، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: الطليعة)، 45، 60. 3 انظر: م. ن. ، 60 61
4 انظر: سانتيانا، 212 214، 228؛ الفَيْفي، عبدالله، (1996)، الصورة البصريّة في شعر العُميان: دراسة نقدية في الخيال والإبداع، (الرياض: النادي الأدبي)، 273 280
aalfaify@yahoo.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|