المنزل المهجور
|
صخب غير معتاد يخيم على تلك القرية الصغيرة الهادئة التي بنيت بيوتها فوق التلال، لتوحي للقادم بأنها معلقة بفوانيس السماء عندما تضيء ليلاً.
لها هيبة الريح عندما تزمجر في ليلة ماطرة عاصفة.. ووقار الشتاء حينما يبسط رداءة آخر الليل في سكينة وتؤدة!!
منازلها تقف بشموخ المعتد بنفسه رغم تباعدها عن بعضها البعض، وكأن أهل القرية أرادوا أن يبتعدوا بخصوصياتهم وحياتهم عن الفضول الذي يميز أبناء القرى!
كان الصخب والضوضاء الذي عم الأرجاء، وقض مضجع أهل تلك القرية المسالمة هو ذلك المنزل المهجور الكائن في أقصى القرية، نوافذه تطل على القرية، وبابه خلفي بالاتجاه الآخر يطل على جبل الريح التي تلقي زوابعها داخل صحنه الكبير لتصفق أبوابه بعنف وتصرخ نوافذه بحدة ويتسرب الرعب إلى نفوس الصغار.. فأصبحت كل أم تريد إخافة صغارها تهددهم برميهم إلى البيت المهجور.. الذي تسكنه الأفاعي والأشباح!
كانت ضجة الليلة الفائتة الصادرة عن ذلك المنزل والإضاءة الخافتة التي شوهدت من بعد وهي تنبعث من ثقوب النافذة المغلقة لأول مرة منذ خمس سنوات مضت هو ما ثار صخب ولغط أهل القرية الذين أخذ كل واحد منهم يلوم الآخر بأن أولاده هم من أفزع المنزل ومن يسكنه من أشباح، فهم يذهبون خلسة كل عصر ليلقوا الحجارة من النافذة، ويرموا بمخلفاتهم عند بابه النائي عنهم باتجاه جبل الريح!!
مما جعل هذه الأرواح تظهر علانية بعد أن كانت تتخذ من بساط الإخفاء مطية لها فلا تظهر للأعين!
لقد أثاروهم مما أفزعهم، وجعلهم يظهرون ليتحد هؤلاء الأشقياء الذين لم تحسن تربيتهم!!
ليزرعوا الرعب في طرقات القرية، والخوف في قلوب أهلها فلن تنام أعين سكانها بعد اليوم هانئة مطمئنة!!
صرخ كبيرهم في الجموع المتجمهرة:
دعوا هذا الهراء عنكم، ولنذهب جميعاً إلى المنزل لنستكشف أمره، ونعرف حقيقته بدل الكلام الذي يتسرب مع الهواء دون التوصل لنتيجة، ودعوا الخوف للأطفال والنساء!
من بين الصفوف برز أحد رجالات القرية الذي يدعى (أبو فتوة) وهو يلوح بيده:
نعم يا كبيرنا إن الحق هو ما تقول، خاصة إنني رأيت قبيل الغروب تلك السيدة الأرملة الغريبة المنقطعة عن الناس التي ترفض فتح بابها لمن يطرقه، ولا تستقبل زوارها، ولم تشاهد وهي تدخل أي بيت من بيوتات أهل القرية، متخذة ذلك البيت المتداعي منزلاً لها، بعد أن ابتاعته من (أبو سالم) رحمه الله، رأيتها بردائها، وهي تهرول متجهة ناحية ذلك المنزل المهجور لأول مرة أراها خارجة منذ أن
سكنت هنا في هذه القرية قبل أربع سنوات!!
تعالت الصيحات، وسرت همهمات بين الجموع، واندفع (مجاهد) بكل ثقله البدني مشاركاً الجميع قائلاً: إن هذا الأمر يجب عدم السكوت عليه لقد حدثني ابني (عارف) أنه رأى شبح رجل يخطو نحو جبل الريح وكان ملثماً، ويرتدي ملبساً غريباً!!
وقد نهرته في حينه وقلت له إنك متوهم، وإن ما رأيته مجرد خيالات بعيدة عن الواقع، لا تتأثر بما يقال يا بني.
فأقسم أنه شاهده وأنه لا يقول إلا الحقيقة.
هنا هز كبيرهم رأسه بتأثر وقال: إذا كان الأمر كذلك فلا بد أن نعرف ما يحدث في قريتنا ونتأكد مما ذكرته فربما الأمر غير ما تفكرون به وهذا ما نريد اكتشافه.
خيم الليل والتحفت القرية رداء السكون ولاذت طرقاتها الباردة، الخالية بالصمت المهيب!
النوم داعب أجفان سكانها الذين ما لبثوا حتى استسلموا لسلطانه، إلا ثلة من شباب القرية الذين اتفقوا فيما بينهم بعيداً عن كبارهم مراقبة (بيت الأشباح) وذهبوا حيث اتفقوا أن يكون مكان الالتقاء عند إحدى التلال القريبة من (بيت الأشباح) ليرقبوا ماذا يحدث داخل المنزل عن قرب حتى يعرفوا حقيقته التي أشغلتهم منذ فترة خلت.
شد انتباههم الضوء الذي سطع من نافذة الغرفة المطلة ناحية المكان
القابعين فيه ورفعوا رؤوسهم مشدوهين، وتبع ذلك فتح النافذة ببطء شديد فشيئاً دون أن يروا شبح أشخاص أو ظلاً!!
ثم أعقب ذلك أن تناهى إلى مسامعهم إنه متوجع بصورة أرعبتهم حتى هم بعضهم بمغادرة المكان ولكن صوت أحد الرفاق أمرهم بالهدوء والتسلح بالشجاعة، حتى يكملوا المهمة التي أتوا من أجلها.
وبطريقة مخيفة صفقت النافذة، وأطفئت الإضاءة ثم سرت همهمات وضحكات خافتة ثم صمت طويل، حتى كاد الشباب يغادرون المكان ولكن أعادهم صوت أنين متواصل وصوت انتحاب امرأة!!
خوفهم، ووحشة المكان، والأصوات الصادرة من المنزل، وعواء الريح كلها مجتمعة منعتهم من التقدم لمعرفة حقيقة الأمر، عادوا أدراجهم مكتفين بما رأوا وسمعوا!
وبعد الظهيرة اجتمع رجالات القرية في منزل كبيرهم الذي دعاهم للاحتفال بعودة ابنه (حسن) من المدينة التي تخرج من إحدى جامعاتها وعين معيداً بها.
وتحدث (حسن) عن الأحداث التي حدثت بمدينته وحالات الرعب والفزع التي اجتاحت سكان المدينة من جراء ما حدث. ومما زاد من رعبهم هو أن المخطط والمدبر لتلك الأحداث أحد المجرمين الخطرين الذي كان طليقاً وبعد الإمساك به وزجه في السجن هرب منه.
وهروبه زرع الخوف بقلوب الناس، وخاصة أن زوجته وضعت تحت المراقبة ولكنها اختفت منذ أربعة أعوام فترة سجن زوجها ولم يهتدوا إليها.
مما زاد من صعوبة الأمر بعدم اقتفاء أثرها لمعرفة طريق زوجها المجرم الهارب!
وهم يأملون أن يجدوه وخاصة إنه أصيب أثناء مطاردته وقت هروبه وهذا لن يجعله يبتعد كثيراً!
وفجأة صرخ أحدهم:
إنه هو.. لا ريب.. إنه هو!
والتفتوا إليه جميعاً.. وقالوا بصوت واحد:
من هو؟
المنزل المهجور.. الأشباح.. المرأة الأرملة!!
وكأنهم كانوا بحلم ليل طويل.. وصحوا بعد سطوع الشمس التي بددت ليلهم وطوت عتمته وأيقظتهم على صوت منبه الحقيقة.
هبوا جميعاً يطوون الأرض هرولة، وللحجارة صوت تحت أقدامهم وهي تتقافز منفضة الغبار عنها الذي علق بها ليصبح كأنه دخاناً خلفهم.
دخلوا المنزل المهجور دون أن يصحبهم الخوف من أشباحه المتوهمة، بعد أن اتضحت لهم الحقيقة.
ولكن.. لم يجدوا إلا فراغا.. ووحشة.. وبقايا دماء.. ورصاصة.. ومسدسا فارغا.. ومنشورات وصوت عاصفة آتية من جبل الريح!!
hakemah@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|