Culture Magazine Thursday  29/11/2012 G Issue 387
فضاءات
الخميس 15 ,محرم 1434   العدد  387
 
في رحاب الموت
بثينة الإبراهيم

 

يصر القادم إلى مصر على زيارة الأهرامات باعتبارها معلماً هاماً من معالم البلد، وإحدى عجائب الدنيا السبع، وكنت أنا كذلك، غير أني أدركت في لحظة ما أن ما نزوره في الأساس هو مقابر، ورأيت في هذه الزيارة شكلاً من أشكال الاحتفاء بالموت، بل وربما كانت الأهرامات المكان الوحيد في العالم الذي احتفل بالموت بهذا الشكل، هذا السر الغامض الذي شغل الكثيرين منذ بدء الزمان، من الفراعنة مروراً بحي بن يقظان الذي أثاره موت الغزالة، فراح يبحث عن أسرار الحياة بتشريح جسدها، فكان أن صار الموت هو بوابة عبوره نحو المعرفة والحياة على حد سواء.

أضحكني خلال الزيارة تعليق لابن أخي على قول المرشدة السياحية «كلنا سنذهب إلى المقابر» - تقصد المقابر الفرعونية خلال هذه الرحلة - فرد عليها قائلاً:» الله يبشرك بالخير»!، ومع أني ضحكت لتعليقه إلا أنه استوقفني، فالخوف من الموت ربما يكون أحد أشكال الخوف من المجهول، باعتبار أن لا أحد ذهب إلى هناك وعاد ليحكي لنا عن العالم الغامض!

في ذلك السياق أتذكر فيلماً أمريكياً حول مجموعة من طلاب الطب المغامرين الذين عزموا على تجربة الموت المؤقت، واختراق المجهول بأي ثمن كان، وحدث أن جربوها بالتوالي لثوان معدودة، وكان مما رأوه أناس كانوا قد آذوهم بطريقة أو بأخرى، فيقومون عند عودتهم للحياة مرة أخرى بإصلاح هذه الأخطاء ولو عن طريق الاعتذار من أولئك المجروحين.

صرت في كل ذلك أفكر في الآلية الدفاعية التي اتخذتها لنفسي في إسقاط من يتعرض لي بأذى من ذاكرتي عمداً، وأعتبره من الذين غيبهم الموت، لدرجة إصابتي بالدهشة المضاعفة إن صادفته في مكان ما، ويطرأ ببالي سؤال: كيف عاد إلى الحياة؟!

كان في المقابر الفرعونية كل ما يشير إلى رغبة الإنسان القديم - والحديث على حد سواء- بالخلود والسعي إليه بطرق شتى، بدءا بجلجامش وسعيه للحصول على نبتة الخلود التي التهمتها الأفعى - ربما كي يفهم أن لا إنسان خالد في هذه الحياة - وانتهاء بالتجارب الطبية التي يبتكرها العلم بين الحين والآخر لإطالة الأعمار أو حتى لتخليد الإنسان كالاستنساخ وغيرها..

الخوف من الموت قديم ومشروع لكنه لا يدوم، وسريعاً ما تأخذ الحياة محله بكل تفاصيلها، التي قد تشغلنا عن التفكير بالموت إلا في لحظات التأمل! وهنا أستذكر قصة خرافية تسردها أمي عن رجل أرعبه الموت فقرر البحث عن الأرض التي ليس فيها قبور وكُلل سعيه بالنجاح ووصل إلى أرض ليس فيها قبور، ومن خلال احتكاكه بأحد الرعاة حذره بألا يشكو أمام هؤلاء القوم من أي مرض يصيبه حتى لو كان مجرد صداع، وعمل الرجل بالنصيحة وكان أن سعت والدة هذا الرجل وراءه تسأل عنه حتى وجدته، ودعيت إلى العشاء فاشتكت من صداع أصابها فقام هؤلاء بذبحها وتناول لحمها، وعرف الرجل من الراعي الصديق بما حدث وعرف السر في خلو الأرض من المقابر فقرر الرحيل عنهم، وكان شرطهم في الموافقة اهتراء النعال الذي صنعوه له من جلد والدته، وطالت المدة دون أن يبدو أن الحذاء سيهترئ قريباً، ومرة أخرى كان الراعي الصديق هو الناصح الأمين وقال له إن جلد الإنسان لا يهرأ بسهولة وإن ما يجعله يبلى هو كثرة الوطء على النجس وروث الحيوانات، وهذا ما فعله واهترأ الحذاء وتمكن من النجاة بنفسه منهم. تستوقفني هذه القصة كثيراً، فالخوف من الموت كان هو الدافع مرة أخرى وراء رحيل الرجل، وهو بوابة المعرفة له أيضا تماما مثلما حدث مع حي بن يقظان، وبخاصة عند الإشارة إلى جلد الإنسان واهترائه بالروث والنجس، وكأن في ذاك إشارة الخطايا التي يرتكبها البشر وقد لا يقف الأمر بها عند إفناء أعمارهم بل وإفناء حيواتهم الأخرى. ومع ذلك كله يظل السؤال الذي يطرحه مصطفى محمود» وأي شيء يبعث على الاهتمام أكثر من الحياة..والمصير..ومن أين.. وإلى أين.. وكيف؟» تلك حقاً هي المسألة.

القاهرة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة