«على أن ما يمثل هواجسي هو العلاقة بين الجنسين، لا كمجرد شعور بوجوب اهتمام نسوي بتاريخ النساء، وإن هو شعور مشروع خاصة أمام استقالة تلك العقول الذكية أمام المسألة، بل كهاجس في تتبع تاريخ المظالم... إن أخطر أنواع الظلم وأعمقها جذوراً داخل المجتمعات هو تلك التي تندس داخل المعرفة فيتضخم هولها باندماجها داخل هذه السلطة الضروس، وهو بالذات ما تتعرض له العلاقة بين الجنسين في التاريخ الديني للإسلام». تتصدر هذه المسؤولية الفكرية تجاه الحقيقة كتاب (امرأة الإجماع) للباحثة التونسية لطيفة الأخضر، وهو إحدى أهم دراساتها النقدية للتاريخ الديني الثقافي في الفضاء العربي الإسلامي.
تركز الأخضر في كتابها الصادر عن مجموعة سراس للنشر على أن المساواة بين الجنسين وإنصاف المرأة لم يكن وليد النتائج المباشرة للنهضة الأوروبية على أهميتها، ولا الإصلاح الديني والفكر العقلاني، ولا فلسفة التنوير والثورات الليبرالية التي كانت لها نساؤها، إنما كانت جميعها حلقات تاريخية ومعرفية لإخراج الإنسان من حالة اللارشد، وتمهيد الطريق للنظريات الحديثة التي طرحت فكرة التساوي بين الجنسين، هذه النظريات التي يمثلها النقد الحداثي للدين والتيارات الفكرية مثل البنيوية وعلم النفس والفلسفة الحديثة.
تشير أستاذ التاريخ المعاصر إلى كيف أن العقل الأوروبي استمر في نقد ذاته وثقافاته السابقة، بمعنى تلك العين لا تنظر إلى الماضي سوى لاستيعابه ودمجه في عملية متواصلة لتحسين الحاضر، بينما في الثقافة الإسلامية بقي الحاضر مشدوداً إلى الماضي في علاقة أشبه ما تكون تعبدية، وفيها تعتبر المرأة من الرموز القوية لترسيخ فكرة التواصل التاريخي وفي عملية إعادة إنتاج المعاني نفسها لاكتساب الأريحية التي يوفرها التكرار.
انتفاء الجدلية بين القديم والحديث فيما يخص قضية المرأة يتمثل في ثلاث شخصيات دينية، وتآليفهم الشرعية تتناولها الدراسة تحت عنوان تعبيرات الإجماع وإجماع المعبرين. تعود كل من هذه الشخصيات إلى زمان وتاريخ مختلف ومناطق جغرافية وثقافية مختلفة أيضاً، هي ابن الجوزي وكتابه أحكام النساء، وابن أبي الضياف ورسالته الشهيرة في المرأة، ورشيد رضا في تفسير المنار. يمكن للقارئ أن يفهم منها عاملين خطيرين كما تشير الكاتبة، الأول هو الارتودوكسية التي استقرت في القرن الخامس هجرياً، والثاني هو هيمنة النفوذ الرجالي في إطار تسيير العلاقة بين الجنسين، فابن أبي الضياف مواليد 1802 لم يختلف في رسالته عن كتاب أحكام النساء لابن الجوزي في القرن الخامس للهجرة، وما ذهب إليه رشيد رضا في تفسير المنار ظل أيضاً على الانغلاق الفكري نفسه فيما يخص قضية المرأة. الضياف الذي عاصر التجديدات الدستورية والقانونية، وتفاعل مع التأثيرات الليبرالية الغربية؛ عوض ذلك برسالته في المرأة بشكل يعبر عن الانفصام في الوعي الإصلاحي الإسلامي حينها، وربما يجد القارئ في هذا ما يمكن أن يُفهم من خلاله إشكالية الدستور الذي طرحه الرئيس المصري كشخصية معاصرة تمثل الإصلاح الإسلامي المتناقض بين السياسي والاجتماعي اليوم.
في الفصل الثاني من الدراسة تتناول الكاتبة آليات الإجماع الرجالي، وهي اتضحت كثيراً من خلال النماذج الثلاثة في الفصل الأول «صورة المرأة عبر الإنتاجات الثلاثة التي تعرضنا إليها تتلخص في أنها عقل ضعيف وأداة جنس ومصدر ارتياب، وهي أوجه ثلاثة منسجمة ومتجانسة ومتناسقة، ولها فيما بينها علاقة منطقية، إلا أن الوجه الأساسي الذي يتفرع عن الآخرَيْن هو أن المرأة جسد جنسي جعل (ليشبع به الرجل شهوته)»، فالفياض المكلف بتحرير قانون عهد الأمان يقول إنه لما أمرت الزوجة بطاعة زوجها ناسب أن يدفع لها من المال ما تعرف به أنه ملك عصمتها لترى نفسها كالمملوكة له، بينما ابن الجوزي الحنبلي العالم في مذهبه والمكلف من الخليفة العباسي بالمجالس الوعظية والتفتيش عن صفاء العقيدة بين الناس، يقول إنه ينبغي على المرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج؛ فلا تتصرف في نفسها ولا في ماله إلا بإذنه، وتقدم حقه على حق نفسها.
ما بين الفقه والحديث تتناول الكاتبة سلطة الحجة ـ فالفقه الذكوري عضده الحديث ضد النساء، والأحاديث النبوية التي وقف الصحابة الأوائل ضد تدوينها لعلمهم بالكذب الذي بدأ يلحق النبي عليه السلام، لم تذهب كتب الصحاح لما ذهب إليه أبو بكر وعمر «يكفي أن نلقي نظرة سريعة على كتب الموضوعات لنرى كم كانت ضئيلة كمية الأحاديث التي اعتبرت موضوعة عندما جاءت لتخص المرأة، وكأن الاحتياط للحقيقة يضعف عندما يصبح الأمر يهم هذه الأخيرة، أو كأن الوضع في شأنها يصبح حقيقة».
تحت توظيف الرموز، تتناول الأخضر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث تلفت القارئ إلى قضية عميقة في التاريخ الإسلامي تكشف كيف تناول الفكر السني السياسي عائشة بالتقديس، دوناً عن بقية أمهات المؤمنين؛ لأنها ابنة الصديق ورمز مذهبي بالنسبة إليهم للوقوف ضد التشيع في معركة الجمل.
في الفصل الثالث والأخير بعنوان حفريات المعرفة، تقول المؤلفة: «تكمن خطورة تغييب جدلية الآني والمستقبلي وتجميد كل واحد منهما في حدوده الضيقة، ودون ضبط للعلاقة الصحيحة لهذه الجدلية، في تفقير الخطاب الديني والسقوط به إلى درجة البرنامج السياسي والتشريعي الجامد».
تقول لطيفة الأخضر «يتبين تضخيم الجنسي وتقلص الاجتماعي بالنسبة للمرأة وهو ما يفسر، في جزء كبير، التهميش التاريخي الذي تعرضت له، والذي احتد خاصة بحكم المرور من الصفة القبلية البدوية التي كان عليها الحجازي الأول إلى الصفة القيصرية الإمبراطورية التي أصبح عليها المجتمع الإسلامي في العهود التي تلت إلى حدود القرن العشرين مع الإمبراطورية العثمانية، وهو مرور وطّد في الحقيقة قبضة الرجل على السلطة، ودعم توظيف أقلام العلماء والفقهاء لوضع كل الضمانات الشرعية لدوامها على أساس توازن يسجن المرأة، ويضعها في دائرة التهميش، وعلى أساس تطوير عقلية السرايا تجاهها، وقد غذى انزواءها هذا في عالم الحريم، مثلما غذت الأحكام التي خصت بها، مخيالاً اجتماعياً يحمل صورة شيطانية عنها، ويخدم عملية تهميشها، ويلعب موضوعياً دور الحجة التي تبرر وضعها الدوني، ويساهم في تكبيلها بالمراقبة والكبح».
lamia.swm@gmail.com
- الرياض