Culture Magazine Thursday  27/12/2012 G Issue 391
فضاءات
الخميس 14 ,صفر 1434   العدد  391
 
الآخر!
بثينة الإبراهيم

 

«إذا كنت أنا أنت وهم نحن، فتكفي أنت

ويكفون هم وليذهب البقية إلى حيث لا يتكررون»

د. إبراهيم التركي- فواصل في مآزق الثقافة العربية

***

يورد إيسوب اليوناني في كتاب خرافاته أو حكاياته المشهور، قصة عن كلب طماع كان يعض على قطعة لحم غنمها من دكان جزار، ومر في أثناء جريه بنهر فرأى انعكاساً لصورته على صفحة الماء وظن أن هناك كلباً آخر فكان أن ترك قطعته محاولاً الحصول على تلك التي بين أسنان الغريم/ الصورة، وكانت النتيجة خسرانه «للاثنتين معاً». من زاوية أخرى، يبدو أن الكلب لم يقبل بوجود الآخر الذي يحمل قطعة لحم مماثلة، بغض النظر عما جال في نفسه من طمع، فهذا الآخر الذي يشبهه وجوداً وصورة، يزاحمه في المغنم، وبالتالي صار غريماً «افتراضياً» له بناء على تهيؤاته!

في نظرة متأنية على المشهد العربي، ثقافياً كان أم اجتماعياً أم سياسياً، نجد أننا نمارس الأمر ذاته ونفكر بالطريقة نفسها التي «فكّر» بها ذلك الكلب، فتشهد ساحاتنا صراعاتٍ ونزاعاتٍ، وربما كان ذلك من أجل اقتسام كعكةٍ افتراضيةٍ هي الأخرى!

يظهر الآخر في كثير من الأدبيات «والممارسات على حدٍّ سواء» على أنه عدوٌّ يُتوجّس منه، بافتراض أنّ هذا الآخر أو المختلف هو الجحيم كما يقول سارتر، أو بافتراض أنه يسعى جهده لإلغاء من يختلف عنه، من منطلق أن «الآخر هو ما يمنعني أن أكون أنا»*، أو أن وجود الآخر يعني أن أناي باطلة، لذا فإن العلاقة بالتالي لا تكون علاقة ندّية بل تتحول إلى علاقة فوقية وإلغاء وإقصاء، «وينسى هؤلاء أو يتناسون أن الاختلاف يعضد الوحدة وأن التنوع يغذي البقاء، وتحقيق الهوية لكل فرقة أو طائفة ومذهب عامل مهم في استقرار الأمم.»* (د.إبراهيم التركي فواصل ص 73)

تمارس الأنظمة الرسمية العربية نوعاً من التعذيب الصامت على الفرد الذي لا يعتنق معتقداتها وتوجهاتها، فتلوّح بوصمه بالمواطنة الناقصة وحرمانه من حقوقه التي تعهدت دساتير تلك الأنظمة بحفظها وعدم المساس بها! ولهذا تخلو السجون من معتقلي الرأي، لأنها تغصّ بمعتقلي الرأي الآخر كما قال أحدهم ذات مرة!

حين أسّس الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام دولته في المدينة المنورة _أو حتى حين بدأت دعوته في مكة_ كان محاطاً بـ»آخرين» يختلفون عنه ديناً ومعتقداً، وفي حين حاولوا إلغاءه، لم يمدد يده إليهم بإقصاء، بل اعترف بهم وبمنجزاتهم متمنياً حيناً أن يكون معهم فيها، كرأيه في حلف الفضول مثلاً، ساعياً إلى ما بدؤوه قبلاً حيناً آخر فيقول منصفاً:» إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».

يمارس الكثيرون «التشبيح» الفكري محاولين فرض رأيهم بالقوة، وتتعالى هذه الأصوات لتنصّب من نفسها خصماً وقاضياً وجلاداً في آن واحد، وتغدو أنت المتهم المكمّم فوك، فلا تحاول أن تمزق اللجام وتميط اللثام، أنت مختلف لذا أنت معاقَبٌ ومراقَب، فكن حذراً! إن مشكلتهم الحقيقية في عماهم، أو إصابتهم بالعشى ويظن واحدهم أنه الزرقاء التي رأت وترى ما لم ير القوم، والويل لنا والثبور لأننا ما اتّبعنا خطوه!

لا ينحصر الآخر فيمن يختلف عنا انتماء ولغة ومعتقداً فقط، فقد يكون الآخر هو من يقاسمنا هذه الأمور مجتمعة، لكنه يناصبنا العداء ما لم نمِل ميله وننحُ نحوه، ولا يكون ذلك في الثوابت بل بالمتحولات، وإن كانت الدولة تلوّح بالتعذيب الصامت، فإن آخَرنا لا يتوانى عن تعذيبنا سراً وعلانية، ابتداءً من الاتهام بصحة الدين والتكفير، وانتهاء بوصمنا بالعمالة للأجنبي، هذا على أهون تقدير لما قد يصل إليه «خياله» من تهم!

تشير الدراسات الفلسفية والاجتماعية إلى الآخر باعتباره عاملاً مهماً وأساسيا في تكوين النظرة إلى الذات، عبر إجراء المقارنات بينها وبين الآخر لاكتشاف أوجه التشابه والاختلاف، وليس بالضرورة أن يحمل ذلك معاني سلبية، ويذهب محمود خليل إلى أبعد من ذلك ليقول إن» أي إلغاء للآخر هو إلغاء للذات وتقزيمها وهدمها على مراحل وإزالتها خارج المعادلة»، أي معادلة الوجود.

يجعل مارتين بوبر العلاقة بين الأنا والأنت مستقلة عن الزمان والمكان، ولذلك فهي لا تخضع لقانون السببية فتظهر هنا الحرية لا الضرورة، لكن يطيب لنا أن نحول هذه العلاقة إلى صراعٍ، مستمرئين سلب الحرية «فحين تجد نفسك تلغيني من وجودي، وحين أتمسك بوجودي تتحول العلاقة إلى صراع، لا لأني أعترض على خلاصك أو احتمال المشاركة في الوجود، ولكن لأني أعترض على إلغائي الناجم عن الطريقة التي تمارس بها وجودك».**(محمود درويش يوميات الحزن العادي ص31)

الاختلاف شرعة الله في كونه، وطبيعة الحياة، وهذا الاختلاف لا يقتصر على تعددية الخلق، بل يتعداه ليشمل اختلاف اللغة والرأي والمعتقد أيضاً، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَم َكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13]، وقد نصت بجلاء على الاختلاف وعلى الحوار مع المختلف على حد سواء في قوله «لتعارفوا»، ومع ذلك يستلذ البعض بجعل هذا التعارف وسيلة للإقصاء والنفي بدلاً من التعاضد والالتحام، مع بقاء الاختلافات، «وسيظل ممارسو الوصاية أو عاشقو الاستنساخ غير منتبهين إلى أن أسلوبهم سيختصر الأمة في واحد، يكرَّر الواحد في مئات وآلاف وملايين، فيبدو الرقم _مثل الرمز_ معضلة الانطلاق والانعتاق».***( د. التركي فواصل ص119)،

لم يكن الاختلاف يوماً سبباً للتفكك والانقسام، والمثال يبدو واضحاً جليّاً في اتحاد الدول الأوروبية مع احتفاظها بكامل خصوصياتها وهوياتها، بعيداً عن الاستلاب.

ليس من الحكمة في شيء أن نكون جميعاً بلون واحد، فنصير مجرد تماثيل مرصوصة أنتجتها قوالب مسبقة الصنع، وتجيء الأجيال من بعدنا وتكون هي الأخرى نسخاً طبق الأصل عنا، كأننا نخرج جميعاً من آلة للتصوير، وننظر إلى بعضنا وكأننا ننظر في مرايا متنقلة نرى بها ذواتنا كيفما اتجهنا، حياة بهذا الشكل كيف تراها تكون؟

- القاهرة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة