إذا أردنا أن نقوم بدراسة في هذا الحقل، ومثله من حقول المعارف الإنسانية-كما تحدثنا من قبل- فلا بد لنا من طرح سؤال تحدد إجابته ماهية الرواية التاريخية، والتاريخ، وما هي الحدود التي تحدد سمات كل منهما، وما هو القاسم المشترك بينهما؟؟، وإذا أردنا أن نعرف أيهما أقدم فسيكون ذلك من الصعوبة بمكان قبل ظهور الرواية الفنية، والواقع اللغوي يقول إن التاريخ رواية، فهو فعلا قصة تروى، والقصة تاريخ، كقصص الأبطال والمغامرين، والعظماء الذين شقوا طريقهم في الحياة، فقصة عنترة، وسيف بن ذي يزن، وإدوارد الخامس، قصص من التاريخ مثيرة في حياة الإنسانية، وإذا رجعنا إلى التاريخ، كقصة لما حدث في زمن ما، نجد المؤرخ قد استقاها من مصدر معين، أو من عدد من المصادر، قد نذكر بعضا منها:
أن يكون المؤرخ نقل الحدث من مشاهداته مباشرة، كشاهد عيان.أو أن يكون سمعه من شخص يثق به ممن شهدوا الحدث نفسه، أو استقاه من مصادر مخطوطة ممن سبقوه، كالحوليات والنقوش، وكتب الفقه، فيما يخص النوازل، وغيرها (2) فهل التاريخ رواية أو أن الرواية تاريخ؟؟، وهل بينهما علاقة تربط كلا منهما بالآخر؟؟ أردت أن أبدأ بحثي هذا بهذه الأسئلة لعلها توصلنا إلى إجابة تحسم ذلك الخلاف الذي قام بين الباحثين والمنظرين واللغويين منذ ظهور الرواية الحديثة، وتصنيف الفنون الأدبية، وإن كان بعض الباحثين يغرد على جمعها وعدم تأصيل كل فن منها، فإني أرى أن هذه الآراء تدعو إلى الفوضى الأدبية، وخلط الأوراق في زمن أخذت العلوم الإنسانية جانب التخصص والشخصنة، وقد أردت أن أضع النقاط على الحروف، فلا يتشابه فن بالآخر إلا بقدر الصلة الحدية بينهما، وتفرع النسب لا يعني دمج هذا بذاك، وبما أن التاريخ فرع من السرديات له خصوصيته، فالرواية فرع آخر لها خصوصيتها كذلك، ولنبدأ بالتاريخ لنحدد معالمه، ثم بالرواية,
التاريخ:
أحداث يكتبها راوٍ واحد (سارد) وهو في الأصل سرد قصصي بالمفهوم القديم، فلم يعرف العرب علم التاريخ قبل عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أي تعريف الوقت وقد أخذوه من أهل الكتاب الذين كانوا يستعملونه في دواوينهم (3) ولذلك فهو يبدأ بوقت معين وينتهي بوقت معين، وقد يكون التاريخ سياسياً يؤرخ لحقبة من حقب الزمن للدولة الفلانية، أو شخصيا يؤرخ لزمن ملك من الملوك، أو سيرة ذاتية لشخص بعينه، منذ ولادته إلى زمن كتابة سيرته(4) أو يكتب المؤرخ سيرة غيرية عن شخص معينbiography من ولادته إلى وفاته، ويعتمد المؤرخ على الأخبار في كل الحالات التي ذكرناها، كحقائق تاريخية سيكون مسئولا عنها في يوم من الأيام لو ظهر فيها ما ينافي الواقع، وقد تختلف الفترات الزمنية بين مؤرخ وآخر، فتاريخ المدن العريقة في التاريخ، كمكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، وغيرها، تاريخ متواتر الأحداث؛ وفي هذه الحالة يكون التاريخ ممتدا لقرون عايش المؤرخ بعضا منها،وقراء عن القرون المتقدمة(5)، كما يوجد من المؤرخين من اهتم بتاريخ بلد معين بكل تفاصيله، من حلل، وأنهار وجسور، وغيرها، فقد أرخ المقريزي للقاهرة بكل تفاصيلها(6)، كما أهتم بعض المؤرخين بالأسواق المهمة في زمن معين، كالأسواق في العصر الجاهلي، مثلما اهتم بها سعيد الأفغاني(7)كما أن هناك من أرخ للأدب واللغة العربية، وغيرها من اللغات، مثلما فعل جرجي زيدان في تاريخ اللغة العربية والتمدن الإسلامي(8) وهناك من كتب التاريخ عن فئة من البشر بصفة عامة، كما فعل الدكتور، جواد علي، حيث درس المجتمع العربي من جميع جوانبه (9) فقد سرد أخبار العرب قبل الإسلام، ودياناتهم وكل ما يتعلق بمعارضتهم للدين الإسلامي الحنيف. والخبر في مثل هذه الحالات يجوز أن يطلق عليه (رواية) بمعنى النقل من مكان إلى آخر وناقله يسمى (الراوية) كما بينا من قبل سواء كان إنسانا أو وعاء، وقد وجدت في بحث أجريته على لغة البدو في جنوب شرق الجزيرة العربية أنهم يطلقون على الوعاء المصنوع من جلود الإبل (الراوية) حيث أنه يتسع لكمية كبيرة من الماء تروي عددا كبيرا من الناس (*الشعر في شرق الجزيرة العربية) وكان الناس يتناقلون الأخبار عن طريق الرواية الشفوية، وخاصة في أحاديث السمر، لأن ثقافتهم بنيت على المشافهة. ولأن هذه الثقافة بنيت على نقل الخبر المجرد بأساليب متعددة، فقد سميت رواية انطلاقا من هذا المفهوم، وما يتلق به من الأمثال والحكم، وإلى حد قريب كان كل سرد يسمى (رواية) حتى المسرحية (10) وما يزال هذا المفهوم يتردد على ألسنة كثير من الناس على أن الراوي معادل للروائي، وهذا كلام عليه كثير من التحفظ العلمي ممن تخصصوا في السرد الروائي، فالتاريخ ليس فيه روائي، ولذلك نجد كل هذه المفردات التي ذكرنا بعضا منها تنضوي تحت مسمى السرد العام، لكنها- بأي حال من الأحوال- ليست رواية بالمعنى العلمي الحديث، بل هي سرد أفقي يبدأ وينتهي في اتجاه واحد.
- الرياض