كنت نويت أن أضع العنوان «ابن حزم والتعايش المذهبي» حتى بدا لي من تعامل ابن حزم وسيرته طريقة أوسع من أن توصف بالتعايش المذهبي..بل التعايش الديني مع حتى الأديان الأخرى .. وبشكل عام يبدو أن أبامحمد بن حزم سهل المأخذ حسن الظن واسع النفس في العلاقات الإنسانية..فحين كان في صباه حتى بلغ حد الشباب كما يذكر عن نفسه في «طوق الحمامة» شاهد النساء وعلم من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيره وتربى في حجورهن ونشأ بين أيديهن، بل لم يعرف غيرهن، ولم يجالس الرجال حتى وصل لمستوى الشباب. فأولئك النسوة علمنه القرآن والروايات من الأشعار ودربنه في الخط العربي.. فكان يسعى في ذلك السن لمعرفة أسرارهن وأسبابهن كما يقول. بل وروى قصته الغرامية في صباه حين أحبّ جارية له شقراء الشعر فلم يستحسن سوداء الشعر لأنها رسمت أول معايير الجمال في نظره وقال عن جارية أخرى «وإني لأخبر عني أني ألفت في صباي ألفة المحبة جارية نشأت في دارنا وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاماً وكانت غاية في حسن وجهها...إلخ» فوقف يصفها ويمدحها بكل أشكال الجمال الحسي والمعنوي، ثم في المجال السياسي والفقهي تحدث عن الشفاء العدوية التي ولاها عمر حسبة السوق، وذكر قصة (ثمل القهرمانة) «التي قعدت للحكم بين الناس بالمظالم وحضر مجلسها القضاة والفقهاء» فكأنه يتحدث عن دور المرأة في السلك القضائي في الوقت الذي لازلنا إلى اليوم في بلادنا نختلف حول دور المرأة كمحامية وقانونية!.. لذلك لا غرابة إن كان هذا العالم الأندلسي المنخرط سياسياً وسليل الطبقة المخملية.. نتاجاً طبيعياً لفقهه الأندلسي الحضاري.
وعودةً على التعايش الديني لدى ابن حزم.. يذكر هو أيضاً قصةً عن نفسه حين كان في مجلس صديقه اليهودي إسماعيل بن يونس «الطبيب الإسرائيلي» كما سماه ووصفه بأنه بصيرٌ بالفراسة محسنٌ لها.. وذكر مجلسه معه. وذكر ابن حيان في الذخيرة، حسبما أشار إحسان عباس، أن ابن حزم له مع يهود مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة ونقاشات ومناظرات فلسفية وفكرية.. ثم كتب رداً وكتاباً يرد فيه على يهودي بالأندلس نال من الدين الإسلامي ونصوصه وآياته في كتاب «الرد على ابن النغريلة اليهودي» فكان ابن حزم مطلعاً على التراث اليهودي بل وتحدث في أكثر من موضع عن بعض مفردات عبرية رواها عن بعض من لهم «بصر بالعبرية» كما يروي.
هذا على مستوى الأديان.. أما على مستوى المذاهب فذكر روايات ونوادر لطيفة في علاقات أهل المذاهب الإسلامية بأهل مذاهبهم وعلاقتهم مع بعضهم في فصل تحدث فيه عما أسماه «طرائف المذاهب» راوياً أشكالاً مختلفة للتعايش المذهبي وتجاوز الطائفية من المستوى السياسي والفقهي فروى قصة «ولاية القاسم بن حمود» في الأندلس ذكر بأنه «تشيع» ولكنه لم يظهر ذلك، ولا غيّر للناس عادةً ولا مذهباً.. وكذلك سائر من ولي من هذه العائلة بالأندلس كما يحكي.. فلم يفرضوا خيارهم المذهبي الشخصي وتركوا للناس طريقتهم ومذاهبهم وعاداتهم.
وفي موضوع التسامح والتعايش المذهبي، ذكر قصة فقيهين: علي بن محمد من أحفاد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما يصرّح بتفضيل عثمان على علي بلا تقية مع أنه من أحفاد علي، ومحمد بن عبدالرحمن من أحفاد عثمان بن عفان رضي الله عنه يصرّح بتفضيل علي على عثمان بلا تقية مع أنه من أحفاد عثمان.. ثم يعلق ابن حزم ويقول «وكلاهما متكلم أديب نبيل ورع» . وذكر قصة محارب بن دثار من أئمة أهل السنة، وعمران بن حطان من أئمة الصفرية من الخوارج.. وأنهما «كانا صديقين مخلصين وزميلين إلى الحج لم يتحارجا قط». وذكر قصة داود بن أبي هند إمام السنة، وموسى بن سيار من أئمة القدرية «كانا صديقين متصافيين خمسين سنة لم يتحارجا قط»...وقصة سليمان التيمي إمام أهل السنة ، والفضل الرقاشي إمام المعتزلة «كانا صديقين متصافيين، وتزوج سليمان بنت الفضل». وفي مجال التعايش والتسامح المذهبي، ذكر قصة هشام بن الحكم إمام الشيعة، وعبدالله بن زيد الفزاري إمام الإباضية ..حين قال «صديقان مخلصان في دكان واحد، لم يتحارجا قط».
وهكذا يذكر ابن حزم هذه الرويات التي بعضها أندلسي وبعضها مشرقي عن فقهاء ورموز مذهبية وفقهية من مذاهب إسلامية مختلفة أقامت أشكال من العلاقات الفكرية والشخصية والإنسانية واستطاعت أن تتجاوز الدعاية المتطرفة بينهما التي تحرض على العداء المطلق وعلى قطع كل أواصر التعاون والتفاهم والتسامح.. مع كل هذا التراث المتداول في وجود الطوائف المختلفة والاعتراف بها وحفظ حقوقها وإقامة حق العدالة معها . ولأجل كل هذا فإن تلك الروايات الحزمية تقدم نماذج متميزة في التعامل مع المختلف المذهبي والآخر دينياً ومذهبياً ..فرحم الله ابن حزم وتلك الأيام الأندلسية المشرقة.
abdalodah@gmail.com
- الولايات المتحدة