Culture Magazine Thursday  27/12/2012 G Issue 391
فضاءات
الخميس 14 ,صفر 1434   العدد  391
 
حديثٌ مع الموت: رَسَائِلُ تَحْتَضِر!(3)
د. عمر بن عبد العزيز المحمود

 

وما زال التحليق مُستمراً في فضاءات هذه المرثية الرائعة التي ينعى فيها مالك بن الريب نفسه حينما أحس بقُرب وفاته، وشعر بدنو أجله، هذه المرثية التي يرسم شاعرنا الحزين فيها المشاهد الأخيرة من حياته، ويصور ما كان يدور في ذهنه وهو ينازع الموت في تلك اللحظات العصيبة الفاصلة، ويبعث في نهاية هذا المشهد بعدد من الرسائل التوديعية الحزينة إلى أهله وأقربائه وأحبائه مذكِّراً ومتذكِّرا، وباكياً ومستبكياً، وسأكشف هنا عن هذه الصور وأطَّلع مع القارئ الكريم على تلك الرسائل التي صاغها مالك بن الريب بلغة فنية راقية، وأسلوبٍ مُحلِّقٍ متميز، وعاطفة صادقة جياشة.

غداة غد يا لهف نفسي على غد

إذا أدلجوا عني وخُلِّفتُ ثاويا

وأصبح مالي من طريف وتالد

لغيري وكان المالُ بالأمس ماليا

فيا ليت شعري هل بكت أم مالك

كما كنتُ لو غالوا نعيِّكِ باكيا

إذا مِتُّ فاعتادي القبور وسلمي

على الريم أُسقيتِ الغَمام الغواديا

تري جدثا قد جرَّت الريحُ فوقَه

غُباراً كلون القُسطلاني هَابيـا

رهينة أحجارٍ وتُربٍ تضمَّنت

قراراتُها مني العظامَ البواليـا

فيا راكباً إما عرضتَ فبلِّغنْ

بني مالكٍ والريبَ ألا تلاقيـا

وبلِّغ أخي عِمران بَردَي ومِئزري

وبلِّغ عَجُوزي اليومَ ألا تلاقيا

وسلِّم عَلَى شيخي مني كليهما

وبلِّغ كُثيراً وابنَ عمي وخاليا

وعطِّل قَلوصي في الرِّكاب فإنـها

ستُبرِدُ أكباداً وتُبكي بواكيا

أُقلِّبُ طرفي حولَ رَحلي فلا أرى

به مِن عيونِ المؤنساتِ مُراعِيا

وبالرَّملِ مني نسوة لو شهدنني

بكينَ وفدَّينَ الطبيبَ المداويا

فمنهنَّ أمي وابنتاي وخالتي

وباكية أُخرى تُهيج البواكيا

يفتتح الشاعر المبدع هذا المشهد بتوجُّعٍ من المصير الذي سيؤول إليه، حين يُدفن في قبره ويرحل عنه أصحابه وأحبابه الذين كانوا معه قبل وفاته، وقد شهدوا اللحظات الأخيرة له في هذه الدنيا الفانية. إنه يتحسَّر الآن بسبب هذه الوحدة القاتلة التي يُحسُّ بِها حين يتولَّى أقرب الناس إليه، ويتركه وحيداً مُفرداً في هذه الصحراء الواسعة التي لا تضمُّ أنيساً ولا جليساً، وهو يتحسَّر بعد ذلك على ماله الذي كسبه في حياته، سواء أكان ذلك المال القديم الذي اكتسبه أيام كان لِصَّاً فاتكاً قاطع طريق، أو هذا المال الجديد الذي حصل عليه من عرق جبينه حين تاب والتحق بركب جيش ابن عفَّان غازيا، هذا المال الذي معه الآن، أو ذلك المال الذي تركه وراءه في وطنه الحبيب، فمهما كان هذا المال، وأياً كان نوعه، ومن أين كان مصدره، فإنَّ الحقيقة التي لا يُمكن أن يَختلف عليها اثنان هي أنَّ هذا المال لم يَعُد مُلكاً له، ولم يعُد متصرِّفاً به؛ لقد تَحوَّل هذا لمال بِمُجرَّد وفاته إلى غيره من ورثته، وهي حقيقة تشي بكثيرٍ من الإيحاءات في هذا الموقف العصيب.

ثُمَّ ينقلنا الشاعر معه بذكراه إلى أمه العجوز التي ودَّعته حين خرج للغزو وهي تُحِسُّ بأنَّها اللحظات الأخيرة التي تراه فيها، ويتساءل عن موقفها من خبر نعيه وكيف استقبلت نبأ وفاته، إنه يعلم يقيناً أنَّها ستبكي عليه كما لَم تبكِ على أحدٍ من قبل، وهو البكاء الذي كان شاعرنا الحزين سيبكيه لو نُقل إليه خبر نعيها ونبأ وفاتِها.

وفي وصية من وصاياه الأخيرة يتمنى من أمه التي حُرمت رؤية ابنها قبل وفاته كما حُرمت رؤية قبره بعد موته أن تذهب في الصحراء القاحلة المتسعة فتزور منطقة القبور وتتصوَّر بعين الخيال قبراً بعيداً نائياً يغطيه الغبار الأحمر بألوان الشفق، فإنَّها سترى هناك رفات ابنها الأخير، وبقايا عظامه البالية، وستقف على المشهد الأخير من قصة حياته التي امتدت فصولاً من روائع البطولة ومشاهد العزة والشجاعة، وعندها فلتبكِ بكاء الثكالى، ولتحزن حزن المكلومين على فراق ابنها الراحل الذي لَم يتبق منه غير ذلك القبر المتهدِّم، وتلك العظام البالية.

ويُحسُّ مالك بن الريب بأنَّ أنفاسَه باتت معدودة، ولحظاتِ بقائه قد أزفت، وفراقَه لِهذه الدنيا أقربُ إليه من شِراكِ نَعلِه؛ لذا فهو يستغل هذه اللحظاتِ المتبقية ليبعث برسائل ووصايا إلى بعض أقربائه وأحبائه، وقد كانت أولى هذه الرسائلِ إبلاغَ نعيه إلى عشيرته كلِّها التي نشأ فيها وخرج منها بطلاً شجاعاً فظلَّت تفخر به، وتعتزُّ بانتمائه إليها، لكنَّ الموت الذي يقترب في هذه اللحظات سيُفرِّق بينه وبين قبيلته، فهما لن يلتقيا أبداً بعد ذلك. وتأتي الرسالة الثانية بأسلوب عفوي حزين يُصوِّر اللحظات العصيبة التي تَمُرُّ بالمحتضر، وكيف يُؤثِّر ذلك في تفكيره، فهو يوصي ذلك الراكب الذي سيعود إلى قبيلته حاملاً خبر وفاته بأن يُسلِّم ما تبقَّى من ثيابه وملابسه إلى أخيه عمران، فلعلها تُهيجُ ذكراه لديهم فلا ينقطعون عن البكاء عليه. وتأتي الرسالة الثالثة إلى زوجه العجوز هامسة في أذنِها كلمات الوداع الأخيرة، فلا لقاء بعد اليوم. وتأتي الرسالة الرابعة ناقلة تَحيَّاتٍ عطرة إلى أبويه اللذين حُرِما من توديعه قبل وفاته، وتَحيَّاتٍ أخرى إلى بعض أقربائه وأحبائه الذي يفتقدهم في هذا الموقف العصيب، ويتذكَّرهم مشتاقاً إلى رؤيتهم كما لَم يفعل من قبل.

وتأتي رسالة خامسة لتوصي بأن تُترك ناقته، التي طالَما رافقته ورافقها في حِلِّه وترحاله، بأن تُترك ترعى حُرَّة طليقة، ويتصوَّر خلال ذلك ما سيحدث عندما يراها أصدقاؤه فيشعرون بِحُرقة الألم لفراقه حين لا يَجدونه بِجوارها، كما يتصوَّر أعداءه الذين سيرون ذلك المشهد فيشعرون بالفرحة والشماتة، وحُقَّ لَهم ذلك، فقد كان شاعرنا الشجاع مُرعباً لَهم، ومُحوِّلاً حياتَهم إلى قلقٍ وخوفٍ طول فترة حياته؛ لشجاعته النادرة، وبطولته المتميزة، لكنه اليوم يرحل عن كلِّ ذلك ويترك ناقته طليقة، في مشهدٍ سيبرد أكباد الأعداء، ويبكي أكباد الأصدقاء.

إنه يُقلِّب طرفه في هذا الوقت العصيب حول ما تبقَّى من رحله الذي كان يَحمله معه طوال هذه الرحلة الطويلة إلى أرض الجهاد، لكنه لا يستطيع أن يرى شيئاً مِمَّا كان يتمنى أن يراه حينها؛ ليكون عزاؤه عندما يرحل عن هذه الدنيا، لقد كان يتمنى أن يرى بعض من يؤانسه، وقد كان يرجو أن يرى أحداً يراعيه، مِمَّا يوحي بأنه على وشك أن يَموت وحيداً، ليس حوله أحدٌ يبكي عليه، أو يتألَّم لوفاته ويَحزن لِموته.

لكنَّ هذا لا يعني أنه لن يبكي عليه أحدٌ من أقربائه وأحبائه وكلُّ من يعرفه في وطنه وقبيلته؛ لذلك هو يؤكِّد هنا أنَّ في وطنه نسوة يعرفن بطولته وشجاعته، ويقدرن قيمة حياته ومصيبة وفاته؛ لذا فلو شاءت الأقدار، وكانت تلك النسوة يشهدن الآن هذه اللحظاتِ العصيبة والثواني الأخيرة التي تسبق رحيله عن هذه الدنيا الفانية لبكين على هذه المصيبة العظيمة والفاجعة الأليمة، ولوصل الأمر إلى أن يفدين الطبيبَ المدواي بأنفسهنَّ لإنقاذه وإبقائه على قيد الحياة، ولكان يتقدَّم تلك النسوة أقرب أقربائه له وأحبهنَّ إليه، وهن أمه وابنتاه وخالته وغيرهنَّ من البواكي اللاتي سيجزعن لِهذا المصاب الجلل، فترتفع أصواتُهُنَّ بالبكاء والعويل، ليُهيِّجنَ بقية نسوة المدينة مِمَّن لَم تدمع أعينهنَّ على هذا النعي الحزين.

* * *

وبعد.. فلا تزعم هذه القراءة الموجزة السريعة أنها ألمت بكل ما في هذا النص (الاستثنائي)، بل إنها لم تتجاوز مجرد الوقفات المتواضعة أمام نص من أبرز نصوص تراثنا العربي الخالد. وهنا أود أن أدون أهم الملامح التي تتميز بها هذه المرثية المتميزة:

1- الفكرة المبتكرة والموضوع الجديد الذي يتحدث عنه النص، فقد تعودنا في قصائد الرثاء أن يقوم الشاعر برثاء خليفة أو أمير، أو نعي قريبٍ أو حبيب، ويشرع في ذكر مَحاسنه ومآثره واصفاً الحزن الذي ألمّ به وبغيره جراء وفاة هذا المرثي، أمَّا أن يقوم الشاعر برثاء نفسه مودعاً أقرباءه وأحبَّاءه، وناعياً روحه التي أيقن بقرب خروجها فهذا ما لَم نعهده أو نسمع به؛ لِهذا كان نصُّ مالك بن الريب متميزاً عن بقية نصوص الرثاء الأخرى، بل مُختلفاً عن بقية نصوص الأدب العربي كافة.

2- المقامُ العصيب والموقفُ الفاصل الذي قيلت فيه القصيدة، فموقفُ الاحتضار وخروجِ الروح والإحساسُ بقرب الأجل من أصعب المواقف التي تَمُرُّ بالإنسان، ولا شكَّ أنَّ إنشاءَ قصيدة في هذا المقام وإبداعَ نصٍّ في ذلك الموقف يعطي العمل الأدبي قيمة وأهَميَّة لا يُمكن أن تتوافر لغيره من النصوص؛ ذلك أنَّ موقفَ الاحتضار موقفٌ لا يُمكن أن يَحصل للشاعر إلا مرَّة واحدة، فمَن ذلكم الشاعر الذي سيقوى على التفكير في نظم قصيدة حينها، وبالروعة والجمال اللذين نَجدُهُما في هذا النصِّ المتألق؟

3- العاطفة الصادقة الحزينة التي تفيض بها أبيات هذا النص، وهذه العاطفة التي نَجدها في هذا النصِّ المتميز قد بلغت أرفع مراتب الصدق وأعلى درجات الواقعية، وهو الأمر الذي لا يُمكن أن يشكَّ فيه أحد؛ إذ إنَّ إبداع نص في ذلك الموقف العصيب تَحديداً لا مصلحة للشاعر فيه أن يُداهن أو يُجامل، ولا يَحتمل أن يكون للمبالغة أو للتفنن فيه نصيب، وهذا ما منح النصَّ قيمة عالية تتآزر مع طبيعة هذه العاطفة الحزينة الأليمة التي تُحيط بالأبيات منذ المطلع وحتى الخاتِمة.

4- تعدُّد الجوانب والمواضيع التي تناولَها شاعرنا المتألق في هذا النصِّ، على الرغم من أنه يعايش موقفاً من أصعب المواقف التي يُمكن أن تَمُر بالنفس الإنسانية، فهو يتذكَّر وداع ابنته ووالديه وإحساسهم بوفاته، ويذكر لنا أبرز الذين سيبكون لرحيله، ويكشف عن وصاياه الأخيرة لصاحبيه اللذين رافقاه طِوال تلك الرحلة عن كيفية دفنه والطريقة التي يفضلها في التكفين والتغسيل، ولَم يُغفل شاعرنا العبقري أبرز الوصايا والرسائلِ التي رغب أن تصل إلى أهله وأحبائه، وهي جوانبُ متعدِّدة من القصيدة، يصعب على شاعر أن يُلمَّ بِها وأن يتذكَّرها في هذا الموقف العصيب ويصوغَها بِهذا الأسلوب اللافت المتألق ما لَم يكن شاعراً متميزاً بِحجم مالك بن الريب.

5- ومِمَّا نستطيع ملاحظته في هذا النص قِلَّة الأساليب الفنية والفنون الجمالية الشكلية التي يَحرص الشعراء عادة على توشيحها قصائدهم، وهذا أمرٌ طبعي في ظل معرفتنا بالموقف الذي قيلت فيه القصيدة، والحالة الجسمية والنفسية التي يعاني منها الشاعر.

6- وأختم هذه الخصائص بكلام جميل لأحد نُقَّادنا عن تقييمه لِهذا النص المتألق حيث يقول: إنَّ هذه القصيدة رائعة عظيمة، لا للغتها وهي تكاد تكون لغة كل يوم، ولا للفكر العبقري المختفي وراءها، فليس ثَمَّة فكرٌ عبقري، ولا لصورها المبتكرة، فلا يوجد فيها صورٌ مبتكرة، ولكن لأنَّها تصوِّر بروعة وأمانة ودِقَّة موقفاً حقيقياً لإنسانٍ حقيقي يوشك أن يدخل أبواب أعنف التجارب البشرية: الموت، تُصوِّر هذا الموقف بكلِّ ما فيه من متناقضاتٍ وجزعٍ واضطراب، دون حرصٍ على إرضاء جُمهورٍ من المستمعين، أو كتيبة من النقاد.

فيا أيها الشعراء.. لا تبحثوا عن إلهامٍ في الكتب والدواوين والوديان الخضراء والليلة القمراء، ولكن نقِّبوا في أعماق نفوسكم ونفوس البشر الذين يُحيطون بكم.

ويا أيها النقَّاد.. لا تزنوا الشعر بِميزان جَمال الألفاظ أو قبحها أو جزالتها أو رقتها، ولكن زِنوه بِمدى اقترابه أو ابتعاده من النفس البشرية.

أما أنت يا شاعرنا البطل فلله در الهوى الذي دعاك.. ولله دَرُّ صباباتك.. ولله دَرُّ انتهائك..

Omar1401@gmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة