(أ)
ليس الافتراض ضعفاً في القدرات العقليّة بل طبيعة في دماغ الإنسان ترفض الاستسلام أمام عجزٍ يُظهره الواقع أو ثغراتٍ ليس لها تبرير في الظواهر العينيّة؛ إذّاك يكون الافتراض آليّة من أعمال الدماغ/القلب: (العقل والفكر) لمعالجة العجز والثغرات؛ والافتراض آليّة في الدماغ العلمي والدماغ الديني معاً لأجل عَقْلِ ما يأتي به التفكّر من تفكيك الظاهرة/الواقعة محلّ التحليل: (فالفكرُ يفكّك الظاهرة والعقل يعيد ربطها والافتراض يسدّ النواقص)؛ لكنّ الفارق بينهما: أنّ الدماغ العلمي يُبقي الافتراض في حدود الوسيلة، حيث ينصبّ منشغلاً بالظاهرة والواقعة لأنّهما العلّة في نشأة الافتراض والغاية من ورائه، فيقلُّب افتراضاً بآخر ويخضعه للمساءلة، تحت منطق تداوليّات الحقيقة وسيولتها بين العلماء وعدم القطع بالحقائق فيما يخصّ الافتراضات العلميّة؛ بينما يُعطّل الدماغ الديني تداوليّات الحقيقة وتعدّدها بتحويل الآلة إلى غاية فيحلّ الافتراضُ محلَّ الاعتراضِ ويؤول حقيقة مقدّسة لا يمكن الطعن بها، بحيث يجوز لكَ الاعتراض على الظاهرة نفسها، وليس لك أن تعترض على افتراض حلّها. والأصل في منطق الحقيقة أنّها قائمة على الافتراض، ولأنّه ليس نهائيّاً ولا يمكن أن يكون نهائيّاً، فإنّ الحقيقة لا تستقرّ ولا تستكين ولا تكون نهائيّة أيضاً، وهذا ما أُسمّيه (تداوليّات الحقيقة وسيولتها)، فالحقيقة لا تستقرّ إلاّ في أدمغة الذين يستسلمون للافتراض ويغلبهم ما يظنّون، لأنّ شيوع الافتراض يخضع في بعض منطقه إلى غلبة صاحبه والحقيقة التي يفترضها ويريد فرضها. هكذا تكون تداوليّات الحقيقة: تقليباً للمعرفة وعدم الاستقرار بنهائيّتها، فكلّ معرفة ناقصة تحت اشتراطات محدوديّة الوعي وارتباطاته بالزمانيّة والمكانيّة. فكلّ معرفة جارية متقلّبة تصبّ في صالح الإنسان وخيره، وكلّ معرفة راكدة آسنة.
(ب)
يناقش هذا المقال مدى ضرورة تجاوز المجتمع في جوانبه الطامسة لوجود الفرد والمنقصة لقوّة الدولة، ومدى تعطيله لتداوليّات الحقيقة التي تؤثّر على تنمية الأفراد وسعادتهم وعصرنة الدول وسيادتها؛ وهما القيمتان (رفاهية الإنسان وسيادة الدولة) التي تُبنى عليهما الدولة الحديثة الأكثر عدالة للإنسان بوصفه الغاية النهائيّة من كلّ أعمال الدول والديانات والعلوم، وكلّ ما يفعله الإنسان في غايته لا بدّ أن تكون للإنسان؛ فإلى أيّ مدى تُعنى البلاد العربيّة بهاتين القيمتين، لطالما تركّز في قيامها على: (وصاية المجتمع، العنصريّة القبليّة، الفكر الديني الأحاديّ)، وهي أركان طامسة ولاغية لقيمة الإنسان والدولة، تبعاً للدولة المعاصرة الآخذة بالتطوّر واقعيّاً ومفاهيميّاً في مناطق عديدة من العالم، بينما بقيت عند حدودها الدنيا في البلاد العربيّة، واقعةً تحت احتلال: (مجتمعيٍّ وقبليٍّ ودينيٍّ)؛ ولأنّ المجتمع الافتراضي سابقٌ للقبيلة والدين فإنّه جذرهما معاً، وإليه تنسب إشكاليّة تعطيل تداوليّات الحقيقة المتأصّل في العنصريّة القبليّة في امتلاكها لوهميّة حقيقة النقاء العرقي، والأحاديّة الدينيّة في امتلاكها لوهمية حقيقة الخلاص الأبديّ، بحيث يكون المجتمع في جموديّات أعرافه حامي القبيلة بعادياتها، والفكر الديني بأحاديّته. وكبرى الصعوبات –هنا- لأجل تجاوز المجتمع والتحرّر من تأثيراته يتمثّل في تحديده وضبطه: (هل المجتمع موجودٌ ويمكن تأهيله أو تحميله المسؤوليّة؟) واعتماداً على منطق التأثير والمسؤولية، فإنّ المجتمع موجودٌ بتأثيراته على الفرد والدولة، وفي الوقت عينه هو غير موجود (ماديّاً-تمثيليّاً) من منطق تحمّل مسؤوليّة النتائج المترتّبة على عاديات أعرافه واستبداد وصايته. فإن كان المجتمع افتراضاً قبل الكيانات فإنّ وجوده يُعارض وينافس سلطة الدولة الحديثة؛ فكيف إذاً يمكن للسلطة السياسية أن تتجاوز الافتراض في الواقع إذا بقي هلاميّاً ولم يُضبط؟
لذلك ابتداءً يجب التفريق بين المجتمع والجماعة، (فالجماعة) مجموعة أفراد يجتمعون قصداً لا عفواً، ولهم غاية من وراء جمعهم، ولهم رأس يؤسس ويدير هذا التجمّع. أمّا تعريف (المجتمع) على صعوبته فإنّه يتمثّل في التأثيرات السلوكيّة المتبادلة بين مجموعة من الأفراد يعيشون في مكان ما -اتفاقاً- دون رئاسة أو غاية، وصادف أن تربطهم منظومة ما تآلفوا عليه وعرفوه (العرف)، وما اعتادوا عليه (العادة) في علاقاتهم الأفقيّة والرأسيّة معاً في المناسبات الدوريّة، وما جرى بينهما من تقليد رأسي للسلوك في أوقات لا شأن لها بالدوريّة (تقاليد)؛ وهذه الضوابط الثلاثة يمكن من خلالها تحديد أوّلي لماهيّة المجتمع. فأيّ سلوك لا يخالف القانون ويخشى المرء القيام به بسبب جيرانه أو أهله أو معارفه فإنّ هذه السلطة المانعة في داخله هي من أعمال المجتمع. ويمكن أوّلياً حصر تأثيرات المجتمع في (العرف والعادة والتقليد) وخلط هذه السلوكيّات بمرجع مقدّس (أ) فالعرف: دون مستوى التشريع بينما له قوّته ونفوذه على الأفراد، إذ يتعرّض من يخالفه للعقاب والنبذ الاجتماعي. (ب) والعادات: سلوك دوريّ اعتاد الناس بشرائحهم المتعدّدة على القيام به دون عقوبة لمن يخالفه أو يتخلّى عنه سوى التعرّض لمنطق العيب والتقصير. (ج) التقاليد: سلوكٌ خاصّ بطبقة رجال الدين والكهانة والمشايخ والحكّام، وتقوم الشرائح الشعبيّة بتقليده.
هكذا تتّضح قوّة المجتمع عند تحديد تأثيراته أنّها سلطة (شبحيّة) منافسة للسلطة السياسيّة، وهو ما يجعل صراع السلطة ضدّ المجتمع معقّد ومضنى، ما لم يتمّ تحديد هذه الأشباح وضبطها، هكذا تكون تأثيرات المجتمع في حصر سلوك الأفراد ضمن نطاقها الذي لا يتعارض مع مكوّنات ذاك المجتمع من (غلبة عرقٍ وديانة)، هكذا يواجه الأفراد سلطتين (عرف المجتمع، وقانون الدولة)، وفي أحايين كثيرة يكون ثمّة تضارب بين السلطتين. فأيّ واقعيّة تبرّر انتماء مجموعة كبيرة من الناس إلى (ما قبل الدولة) حيث الأحكام العرفيّة بينما نحن في عصر الدولة؟ وكيف نفسّر خوف الناس من الناس (الذين هم ممثّلو المجتمع بالافتراض) في أمور لا تخالف القانون (الذي هو ممثّل قيمة الدولة)، بينما هؤلاء أنفسهم لا يهابون تجاوز القانون نفسه!
(ج)
إنّ نشأة المجتمع وتكوّنه التلقائيّ الضارب في القدم يجعله يحظى بهيبة تاريخيّة تراكميّة لطالما مهّد دائماً للكيانات التي تليه: (القبيلة، الدين، المدينة، الدولة)، ومن هنا فإنّ تجاوزه مسألة ليست يسيرة على مستوى الأفراد والدولة أيضاً، لأنّه يتغلغل في الوعي المزوّر للإنسان بحيث ينتمي الإنسان للمجتمع ويكفر بنفسه.
وشيءٌ من أقدميّة المجتمع يؤسطر ويوثّن هذا الوجود، ويحظر على الأفراد الشكّ في مدى قيمة وجوده من عدمها، بينما تجدهم يناقشون أو يتجاوزون الكثير من تشريعات الدولة وهم عاجزون عن تجاوز أيّ عرف، وإن كان خارج نطاق التشريع، كما هو حال الثأر في اليمن، وجرائم الشرف في الأردن، والطائفيّة في لبنان، وممارسات الهيئة والقضاة في السعودية.. وأمثلة غلبة العرف على التشريع كثيرة في البلاد العربيّة، وكلّها أعراف لم تشرعن، يفرضها المجتمع باستغلال المقدّس والهوية والرابط والعقد والوثاق، وإلى آخر تلك الكلمات الحاملة لصفة العصمة لكلّ من يقترب من حرم المجتمع الذي يطغى بتأثيراته فوق الفرد والدولة.
***
على ضوء ما سبق، أزعم أن (الفصل بين الدولة والمجتمع) سوف يحرّر التشريع باتّجاه المعاصرة لأنّ جوهر الدولة وأصلها يعملان على العصرنة والتجديد والتغيير، بينما جوهر المجتمع وأصله يعملان على الركود والاستكانة، كما أنّ (الفصل بين الفرد والمجتمع) أساسٌ لمعرفة الفرد/الإنسان: قيمته، قدرته، قوّته، قانونيّته، قيادته؛ وضمانة لأهليّة الالتزام الفردي الواعي لتشريعات الدولة؛ فكلّ أخلاق تخصّ المجتمع ولا تخصّ الفرد هي محضّ أخلاق موهومة وإعادة النظر فيها محسومة باتّجاه التبدّل والعصرنة مع مرور الوقت، ولا بدّ للفرديّة الذكيّة والدولة المعاصرة أن تتجاوزها كمبادرة ضروريّة في طريقها لتخطّي تأثيرات المجتمع، لأنّ الفصل بين الدولة والمجتمع أساس الفكرة التي نقدّم لها على أنّها تحرّر الفرد والدولة معاً من احتلال المجتمع لهما، وأساسٌ لدولة الحقوق والواجبات، حين تنصبّ كلّ أعمالها لصالح الإنسان، ولا شيء غير الإنسان.
Yaser.hejazi@gmail.com
- جدة