أول ما يمكن حسابه لنظرية الخلق وما استدار على مبدئها من وجهة شكلية في نظرية الأدب، هو التأكيد على قيمة الابتكار والإبداع الذي تضمنته التسمية للنظرية في دلالة الخلق المُعَنْوِنة لها. وهو تأكيد على قيمة جوهرية في الوصف للنتاج الأدبي لا يدلل عليها ما جرت عليه النظريات من وصف له بـ»المحاكاة» أو «التعبير» أو «الانعكاس». فليس شيء أهم في الأعمال الأدبية عند متلقيها من مفاجأتها لوعيه بما لم يكن في حسبانه، وما لم يتعوده، وهذه انعطافة في النظرية تفارق الرؤية للأدب من زاوية الأديب المنشئ له، ومن زاوية الواقع المحكِي أو المنعكس على تأليفه، ومن شأنها أن تضاعف من طلب الجِدَّة والنفور من التقليد والاتباعية، وتحفز الرؤية إلى الجهد الأدبي بوصفه فعلاً يفتح الوعي على ما يجاوز الواقع ويستشعر طاقة التحرر منه والهيمنة عليه.
ولم يكن الشكل الأدبي في تأكيد هذه النظرية عليه، واختصاصها الأدب من زاويته، منفصلاً عن ذلك. فالابتكار في الأدب لا يعني ابتكار موضوعات له، والموضوعات «مطروحة في الطريق» فيما قال الجاحظ؛ وإنما يعني ابتكار أشكال تضيف كائنات إبداعية إلى وعينا بالواقع وبالأدب على حد سواء. ومؤدَّى ذلك يعني خلق اللغة وإعادة خلقها باستمرار، فلا يمكن أن نرى الأشياء رؤية جديدة إلا بالدلالة عليها بلغة جديدة، وهذا معنى قول نيتشة: «ليس ثمة تعبير خاص، ولا معرفة خاصة دون مجاز» وهي قولة تضمنتها دلالة النظرية بأكثر من إشارة، وتضمنها على نحو أخص إزاحة الدلالة المجازية نفسها –لدى رتشاردز- من العلاقة الاستبدالية للفظٍ بآخر إلى العلاقة التفاعلية بينهما التي تولِّد معنى لا يمكن الحصول عليه دون التفاعل المشترك بينهما.
وإذا أردنا أن نستخلص معنى لمثل هذا الفهم، فإن دلالة التأكيد للفعل الإنساني هي دلالته الأوضح في تصور النظرية. لكنها من حيث التأكيد على الشكل تتيح للنقد الأدبي ما يصونه عن الانطباعية ويعبِّر عن تشوُّفه إلى العلمية، وهو بالقدر نفسه ما ينعكس على النظرية الأدبية فتتماسك تجاه موضوعها لأنه يقوم في مادة محسوسة أكثر قابلية للوصف والتجريد. وبذلك برز الاختصاص النقدي الأدبي كما برز الاختصاص النظري الأدبي بما لم يبرزا من قبل، لأن الشكل الأدبي هو مقوِّم الاختصاص فيهما، وقد كانت النظرية الأدبية تتفرع تجاه الأدب من مقولات لا أصالة لها في الأدب بل في ما هو خارجه أو بموازاته.
ولا نبالغ إذا قلنا إن تفجُّر النظرية الأدبية منذ النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي هو قرين ارتكازها على الشكل، وأن الشكل في النظرية الأدبية هو الذي فتح آفاقاً جديدة في النظرية والنقد الحديث ما تزال إلى آخر التجليات النظرية تستمد من مقولات اللغة والشكلية حتى وهي تجاوز الشكل إلى الوقائع الاجتماعية والمادية وتكشف عن بُنَى الوعي المجاوزة للفردية. وبوسعنا أن نقرأ في الشكلية كثيراً من المقولات التي تطوَّرت فشكَّلت مرتكزات للنظرية في البنيوية وما بعدها. فالاعتراف بعلاقة العمل الأدبي بالأعمال السابقة وقيمة هذه العلاقة التي نجدها عند شكلوفسكي مثلما نجدها لدى إليوت، خصوصاً في تعميم شكلوفسكي هذه العلاقة بحيث لا يدرَك العمل الفني إلا في علاقته بالأعمال الفنية الأخرى، وليس النص المعارِض وحده -فيما يقول- الذي يُبْدَع في تواز وتقابل مع نموذج معين، بل إن كل عمل فني يُبْدَع على هذا النحو، هو ما صاغه فيما بعد من زوايا مختلفة –مثالاً لا حصراً- باختين في «التعدد الصوتي» و»الحوارية» وجوليا كريستيفا في «التناص» وهارولد بلوم في «قلق التأثير».
وليس تعدد المعاني لدى إمبسون مقولة مغلقة، بل نافذة اتسعت وأخصبت في التفكيكية ونظريات القارئ، وقد اهتدى إمبسون إليها -إضافة إلى مقولات الرمزيين حول المعنى الشعري- في ضوء اعتداد أستاذه رتشاردز بالعمل في لحظة التلقي وقيامه بتجارب قراءة لبعض الأعمال مع طلابه بعد إخفاء اسم مؤلفها. وإذا كان تعدد المعاني لا يبلغ مداه مع الاعتداد بقصدية المؤلف التي نبذها رتشاردز –مثلاً- منذ العشرينات، وسار غيره في الطريق ذاته إلى أن جاوزها النقد الجديد بتبلور مقولتي: «المغالطة القصدية» و»المغالطة التأثيرية» في الخمسينات، فإن المقولة البنيوية التي صاغها رولان بارت تحت عنوان «موت المؤلف» هي المدى الأقصى في استغلال مفعول المجاوزة لقصدية المؤلف بما يحقق فتح آفاق الأعمال وبلورة استقلالها والنفاذ إلى ما يجاوز فرديتها. ويضاف إلى ذلك ما ورثته نظرية الأدب –إجمالاً- عن نظرية الخلق والشكلية من حيث هي موقف من الأعمال الأدبية والفنية، إنه موقف يستبدل الوصفي بالمعياري، والموضوعي بالانطباعي، والمعرفي بالإديولوجي.
وقد نقول إن مقولات نظرية الخلق والشكلية، تأتلف وتختلف ضمن إطار يَسِمُها بهوية مائزة لها في قبالة غيرها من النظريات والوجهات النقدية، ولكنها لا تستقل بعديد من مقولاتها ومقوماتها الجمالية ولا تحتكرها. فبوسعنا أن نجد تلك المقومات الجمالية والنظرية في وجهات نظرية ومذهبية أخرى تجاه الأدب، وقد تتقارب العلة أحياناً أو التفسير لها، أو تزداد وضوحاً وتفصيلاً، وقد يضفي الإطار العام للنظرية ما يخرجها عن الإطار الذي يصنع لها الدلالة النظرية في أخرى. لننظر -مثلاً- في مقولة «التغريب» لدى شكلوفسكي، ألا تذكِّرنا بالتفاتة وردزورث وكولردج إلى ما يكسر جمود اللغة وصلابتها من لغة البسطاء والطبقات الدنيا في تلقائيتها وجدتها على الشعر؟ والتغريب هو الوجه الآخر لمقولة الغموض في الرمزية واطِّراحها اللغة التقريرية المباشرة والتسمية الصريحة للأشياء، وهو ما يذكِّرنا بقيمة المجاز المضفاة على الأدب منذ أرسطو وتحاشي اللغة المباشرة.
وفي تراثنا النقدي العربي تأكيد شائع على جمالية الغموض، فأفخر الشعر –فيما يقول أبو إسحاق الصابئ- «ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه»، وهذا الغموض عند عبد القاهر الجرجاني مدعاة إلى قيمة العبارة في ذاتها، لأن «الشيء إذا نيل بعد الطلب له، أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف وكانت به أضن وأشغف». وليس «النظم» لدى عبد القاهر الجرجاني، من حيث هو مناط الميزة الإبداعية مختلفاً كثيراً عن ميزة الشكل وقيمته الإبداعية لدى أبرز الطروحات الشكلية، خصوصاً «جوهر القصيدة» لدى برادلي الذي يميِّزه عن موضوعها، مع احتفاظ عبد القاهر بقصدية المؤلف. وكانت مقولة الفن للفن أو الشعر للشعر، بالمعنى الذي يُخْلِصه للجمال والمتعة دون المنفعة مذهب شائع في الشعر العربي وفي وصف القدامى له. فالآمدي –مثلاً- يقول: «الشاعر لا يطالب بأن يوقع قوله موقع الانتفاع به». وهذا المدلول هو أحد مذهبين للعرب في قول الشعر عند ابن سينا «أحدهما ليؤثِّر في النفس أمراً من الأمور تُعَدُّ به نحو فعل أو انفعال، والثاني للعجب فقط، فكانت تشبِّه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه». إضافة إلى مقولات عديدة لقدامة بن جعفر والقاضي الجرجاني وغيرهما، في عذوبة الكذب في الشعر والتناقض والانفكاك عن قيود الثقافة الرسمية والاجتماعية.
أما الغاية الشعرية التي تقوم في نظرية الخلق على التحرر بمعانيه النفسية والاجتماعية العميقة، وقد رآها رتشاردز في الجمع بين الدوافع المتصارعة وتحقيق التوازن الداخلي، وكانت لدى كينث بيرك في إقصاء كل أنواع الصراع، فهي وجه من الوجوه التي يتسع لها تأويل «التطهير» الذي عرفناه لدى أرسطو. ومثل ذلك مفهوم الوحدة التي تؤكِّد عليها نظرية الخلق والشكلية في كل عمل على حدة، وكانت مبحثاً في النقد الشكلي تتجلَّى به قيمة الشكل في الأعمال وأهميته نقدياً، وقد كانت الوحدة العضوية إحدى أبرز المقومات الجمالية في نظرية التعبير فيما قرأنا عند كولردج. لكن ذلك كله يدخل في نظرية الخلق والشكلية ضمن إطار يخصِّصه ويمهره من منظورها الذي لا تنفصل فيه أهمية العمل الأدبي في ذاته وفي شكله عن استبعاد قصد مؤلفه أو حكايته للواقع.
وبالطبع فقد أثْرَت هذه النظرية مبحث الشكل الأدبي بما نشأ في ظلها من ممارسات إجرائية لوَصْفِه واكتشافه، وأكسَبَتْ الدارسين المهارة الآلية التي تستشعر روح العلم والتحديد المادي لما يتوجَّه إليه بالدراسة والوصف. وغدا النقد الأدبي اختصاصاً متبلوراً وقائماً دونما اعتماد على حقول معرفية أخرى أو موضوعات خارج العمل الأدبي الذي صار موضوع اختصاصه بقدر ما هو موضوع بحثه ومقارباته. لكن هذه المزايا لم تحل دون الطعن على نظرية الخلق والشكلية بما يفتح السبيل لأطروحات غيرها من النظريات ويبرِّر له، سواء في اتجاه التعميق لها والاستطالة بها، أو في وجهة النقض لها والانحراف عنها. وعلى رغم ذلك فقد ظل الشكل الأدبي وظلت اللغة والخطاب اللذين يندرج في عدادهما موضوع تلاق بين عديد النظريات.
لقد استحال الفهم للأدب في ضوء نظرية الخلق والشكلية -خصوصاً بعد اتصالها بالبنيوية- إلى نوع من العدمية المتقارنة مع ما أضفته عليه من الآلية والأنانية. وكانت صرخة تودوروف في كتابه «الأدب في خطر» دلالة ضجر بهيمنتها على الحياة الأدبية وضيق بما أفضت إليه من جفاف المنبع الإنساني الذي يُبْرِؤُنا الأدب في ضوئه –فيما يقول ريتشارد رورتي- من عبادة الأنا. ومؤدَّى ذلك لدى تودوروف هو البحث عما يُخْرِج النقد والنظرية من الغيتو الشكلي الذي لا يهم إلا نقاداً آخرين وفَتْحُه على السجال العريض للأفكار الذي تشترك فيه كل معرفة الإنسان. إن الفهم الشكلي للأدب لا يزيد لدى تودوروف عن إيضاح المفاهيم التي استحدثها هذا العالِم أو ذاك من علماء اللسانيات، أو هذا المنظِّر أو ذاك، والمطلوب هو أن نصل إلى معاني النصوص التي ستقودنا إلى معرفة الإنساني وهي المعرفة التي تهم الجميع. فلا تغدو النظرية الأدبية أو المنهج النقدي غاية لكل غاية ولا يتجه تدريس الأدب إلى مج رد إنتاج أساتذة له، وإنما لإدراج الأعمال الأدبية في الحوار العظيم بين البشر.
هكذا تصبح مصادرة العلاقة بين الأدب والواقع، وبين الأدب والمؤلف، بحسب أطروحات الشكلية، تفلُّتاً مستحيلاً من شروط الوجود المادية والمعنوية. فعلى الرغم من أن الفعل الأدبي، كما تقدَّم في نظرية التعبير، يتكئ مثل أي إنجاز إنساني على الابتكار الفردي، فإن من غير السائغ أن نتصوَّر الفرد نقطة ابتداء وختام لا قبلها ولا بعدها. فهو ليس خالياً من الأخلاق، والإنسان مادام أنه كائن اجتماعي ولغوي فهو ذو حس أخلاقي إلى الصميم، وهو ليس نقطة معزولة عن الارتباطات الدنيوية، تلك التي وصفها إدورد سعيد في كتابه «الاستشراق» بأنها تؤدي إلى طبيعة مغلوطة لكافة التمثُّلات، بسبب من ارتباطاتها بالسلطة والموقع والمصالح. وإذا كانت الشكلية مؤدَّى اختصاص علمي –كما رأينا- فإن فكرة الاختصاص تلك، قد أصبحت لدى إدورد سعيد «فكرة إديولوجية في العمق ومترسملة ومؤسساتية إلى أعلى الدرجات».
ولا يخفى ما تتضمَّنه نظرية الخلق والشكلية من مركزية في بنية الشكل أو في مقولة الابتكار، أعني الوحدانية وقهر الاختلاف. وقد يأخذنا العجب من المواقف السياسية والإيديولوجية لدى أبرز منظِّريها مثل إليوت وكرو رانسوم من حيث بروز المركزية الأوربية أو المركزية الغربية لديهما. هكذا كانت الشكلية انغلاقاً لم يسمح بالمجاوزة إلى الأدب من حيث هو نتاج نسوي أو نتاج أقليات أو فقراء أو أرقاء، بل كان الاهتمام الغالب بالشعر هو الوجه الآخر لتحاشي الرواية والمسرح في هذا المنظور لأنهما يستدعيان الصلة بالظروف التاريخية.
- الرياض