احتفل نادي جدة الأدبي قبل أسبوعين بتكريم (والأصح: بفوز) الأستاذ القدير عبد الفتاح أبو مدين بجائزة الرمز الثقافي، وهو فوز مستحق بكل المعايير، فهو المثقف الواعي بقيمة الثقافة الحقة، والذي وقف ليستلم جائزته على المنصة فانتصب من خلفه تاريخ طويل من العطاء الثقافي، وإنتاج غزير من الكتابة في الأدب ومقالات الرأي، ورصيد هائل من المواقف الصلبة أمام التحديات التي اعترضت طريق النمو والتطور الثقافي المحلي.
حين نختار رمزاً لنكرّمه فإننا نختار شخصاً قد تحول في ضميرنا الثقافي إلى حزمة من الدلالات التي تتداعى حين نذكر اسمه، وحين نذكر الأستاذ أبو مدين فإننا نستدعي حضوره المتميز بالتضحية ووضوح الهدف والإيمان بالرسالة، ثم نضع هذا الحضور في سياقه التاريخي فيزداد احترامنا له، ذلك أن فكرة الريادة تدعم مسيرته بالابتكار والمبادرة والجهد المكثف المبذول من أجل تحقيق رؤية صادقة.
يستحق أبو مدين أن يفوز وأن يـُـكرّم لأنه رائد ومن جيل الرواد. هؤلاء هم الأدباء الذين جايلهم وجالسهم وزاملهم وحاورهم: محمد حسن عواد وعزيز ضياء وعبد الله القرشي ومحمود عارف وأحمد قنديل ومحمد علي مغربي ومحمد حسن زيدان ومحمد حسن فقي وعبد الله بالخير وطاهر زمخشري... !! من أي سياق ثري خرجت إلينا أيها الرائد؟ وأي تجارب ومعارف تحملها في ذاكرتك؟ هل عرفنا قيمتك كما يجب؟ وهل وفيناك حقك من التكريم؟
ليلة فوزه وقف أبو مدين على منصة نادي جدة، هذا النادي الذي هو جزء لا يتجزأ من تاريخه، فقد نشأ أمام عينيه منذ أن كان طلباً على ورقة، ومنذ أن سعى سعياً حثيثاً ليؤمن له أرضاً، ومنذ أن طاف من مكتب إلى مكتب ليقيم عليها مبناه الجميل الذي ما زال متفرداً حتى في تعالي المبنى الجديد الضخم الفخم من خلفه.
في عام 1395 ولد نادي جدة الأدبي على يد عبد الفتاح أبو مدين ورفاقه، ودام التلازم بينهما على مدى ربع قرن من الزمان شهد نجاحات وإخفاقات وحركات حيوية ومقاومات تجميدية، لكن رئيس النادي احتفظ بإرادته وعزيمته اللتين بدأ بهما، وظل يواجه التحديات بشجاعة ولكن باتزان ورقي، فهو كما سماه د. محمد بن على المحمود: «المجاهد الثقافي الكبير»، صاحب الإنجازات المبهرة.
وإن تحدثنا عن إيمان هذا الرمز برسالته وسعيه لتحقيقها بكل ما أوتي من قوة، ثم تحمل تبعات إقدامه عليها، فلا بد من التوقف عند إصراره على تقديم الفرصة كاملة للمرأة كي تشارك في الطرح الثقافي الرسمي. وهو قد جازف أكثر من مرة لكي يضمن لها حضوراً مشرفاً ووقف مؤازراً لها رغم كل الصعاب. وسيشهد له التاريخ بتلك الأمسية الشعرية في 1407 التي استضاف فيها شاعرات الوطن البارزات، ثريا العريض وفوزية أبو خالد وأشجان هندي، وعن طريق الدائرة التلفزيونية المغلقة، والتي واجهت معارضة عنيفة من بعض الحضور المتشدد واعتراضات مشوهة كلفته الكثير، ولكنه تحمل وحده النتيجة، فتمت إقالته وإعفاءه من رئاسة النادي، ثم منع الحضور النسائي.
بعد عودته لمنصبه، لم يتوقف أبو مدين عن محاولاته إعادة النساء إلى المضمار الثقافي وبقوة، فجاهد طويلاً من أجل الحصول على الموافقة الرسمية لحضورهن، ثم أقام لهن قاعة لائقة بهن في حديقة النادي وزودها بأحدث وسائل الاتصال بالقاعة الرئيسية، ثم أشركهن في الملتقيات الرسمية للنادي، وفي الكتابة في الدوريات، وفي المساهمة في الجلسات والمناقشات، وظل يرقب تقدمهن وبروزهن بكل فخر واعتزاز.
هذا هو الرمز الذي تم تكريمه في عقر ناديه، لكن التكريم في رأيي لم يكن كافياً، وسأكون صريحة في قولي بأن ما انتقص من تكريمه هو مشاركته الليلة مع فائز آخر قاسمه الوهج والاحتفال والمنصة والحضور وحتى الجائزة، ولولا أن الجائزة الثالثة لأفضل بحث قد حجبت لكانت القسمة ضيزى على ثلاثة. كان الأجدى أن تكون تلك ليلة خاصة بتكريم أبو مدين، وهو يستحق أن يكون نجمها الأوحد. ومع كل احترامي للفائز بجائزة المنجز الأخ الدكتور أحمد العدواني، فإن كلمة منجز لم تكن لتقف على قدم المساواة مع الإنجازات العريضة على مدى سنوات طويلة. منجز واحد عبارة عن كتاب قام ناد أدبي بطباعته عن رسالة الدكتوراه هو منجز متكرر، فالدرجة العلمية التي حصل عليها الفائز بهذا البحث كانت هي المقابل لجهده الدراسي، وطباعة النادي لرسالته على شكل كتاب حقق المقابل بشكل مزدوج. أما أن يفوز على نفس المنجز مرة ثالثة، وفي حضور هذا التاريخ من الإنجازات التي يتمثلها الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، فلم يكن في صالح الدكتور العدواني.
وليس هناك لوم على أخي الدكتور العدواني مطلقاً، وإنما ينصب لومي على إدارة النادي الأدبي بجدة والتي قامت بتفتيت الجائزة التي قدمها رجل الأعمال أحمد باديب للنادي. في الليلة التي أعلن فيها باديب عن جائزته عبر عن مقصده منها واختار مسماها: كان يريد جائزة لأدباء جدة تحت مسمى جائزة العواد مقدارها 200 ألف ريال وبرعاية النادي. لكن الإدارة السابقة احتارت في طرق اعتمادها رسمياً، وحين طال الوقت أضاف باديب للجائزة 200 ألف ريال أخرى ليصبح مجموعها 400 ألف ريال.
ولا أعرف كل تفاصيل التغيير التي طالت الجائزة الكبرى فحولت مسماها إلى النادي بدلاً من العواد، ثم وزعتها على جائزتين إحداهما للشعر والأخرى للدراسات النقدية، ثم بقدرة قادر تم تفتيتها إلى جزيئات أصغر فأصغر، فإذا بها تختار رمزاً، وصاحب إنجاز، وبحثاً، وإذا بها قد تحولت إلى جائزة ترضية لا يطمح إليها طامح. وأنا لا أفهم منطق الرغبة في أن تعم الفائدة على حساب التهوين من قيمة الجائزة المادية ومن ثم المعنوية، فكلما تضخم مقدار الجائزة المالي كلما دلت على تقدير أضخم للفائز، فهكذا تقدم نوبل وجائزة الملك فيصل والبوكر والعويس مبالغ سخية للفائزين بها.
أما نحن فليس لدينا أي جائزة كبرى، وحين نفكر في جائزة ويفتح الله علينا بدعم سخي لها، نبدأ في تفتيتها وتقليصها وكأننا نبخل بها على فائز واحد حتى ولو كان مستحقاً لها، وهكذا فعل نادي حائل بجائزة الرواية التي تعطي الفائز بها 70 ألف ريال، ثم توزع البقية على ثلاثة فائزين آخرين في سابقة عجيبة. وهكذا تفعل وزارة الثقافة في جائزة أفضل كتاب في معرض الكتاب السنوي فتقسم المبلغ المجزي على عشرة كتب.. فتضيع بركته.
كنت في سيارتي في موقف النادي ليلة خروج أبو مدين الأخير بعد استقالته، دون أن يراني راقبت تفاصيل رحيله عن المبنى الذي كان أقرب إلى نفسه من بيته. كان ابنه وديع يساعد في نقل الكراتين من المكتب إلى السيارة، ثم خرج الأستاذ وسار بعيداً عن المكان الذي شهد تأسيسه منذ اللبنة الأولى، وتصورت أنه ينتزعه من قلبه بشدة تدميه. لم تكن المسألة تمسكاً بمنصب أو التصاقاً بكرسي، ولكنها كانت مشاعر الانصهار في مشروع حياة كاملة وتغذيته من الروح ورعايته من القلب. أخذ أبو مدين ريادته وخرج من النادي في ظلمة تلك الليلة وبصمت كاتم. من مقعدي في السيارة وجدتني ألوّح مودعة: تحية لك أيها الرمز.. كل الاحترام والتقدير لتجربتك الرائدة أيها الأستاذ..
lamiabaeshen@gmail.com
- جدة