محمد رجب البيومي - 126 صفحة من القطع المتوسطة.
حصاد الدموع بكاء، ورثاء.. وشحن.. وتفريغ لشحنة الألم داخل النفس.. الدموع رحمة.. إنها أيضاً تغسل المآقي من أوضارها.. تعيد إليها صحة النظرة.. وصفاء الرؤية.. فهل هذا ما يعنيه الشاعر بعنوان ديوانه؟!
شاعرنا قدَّم لديوانه بهذين البيتين:
أتيت عقلي أستشفي بفطنته
مما أصاب فلم يسعف بترياق
فجئت قلبي والأشجان تعصره
لأقبس الشجو من أعماق أعماقي
لا بد أن غالياً عليه كغلاء عينيه رحل.. والأنكى إحساساً بالفقد حين يأتي مفاجئاً مواجهاً للروح والنفس:
عزيزة. أعز من عينيا
حبيبة. أحب من في الدنيا
بحبها الحافز كنت أحيا
واليوم إذ ماتت فلست حيا
بهذا الإيقاع الحزين رسم لنا شاعر صورة رثائية مكتملة العناصر مختصرة الكلمات.. وخير الشيء ما قلَّ. ودلَّ. ومن الرحيل الذي لا أوبة فيه.. وجرحه الغائر إلى أكباد أطفاله:
أكباد أطفالي دهتك النار
ليعيش في لهب الجحيم صغار
أكباد أطفالي كففت مدامعي
ورأيتكن فهاجني التعباء
ويطرح السؤال الذي لا إجابة عليه:
لِمَ يا همام هصرت غصن شبابها
وله زهور غضة وثمار؟
وكأنما كان يفاوض الموت!!
دع عنك ناضرة الغصون تظلنا
وخذ الذوابل انهن كثار
ربما يشير إلى من أشرفت حياته على الأفول. ويسترجع في ذاكرته قصة حياة مليئة بالحب منذ أن تعرف عليها واصطفاها زوجة.. وخلفت له ذرية تعمر بها الدور.. وتسكن إليها الأفئدة.
أرأيت كيف تصير تعزية الورى
نفرات جرح هاجه التذكار
أجفو الأنام تفرداً بكآبتي
فإذا اضطررت فوحشة ونفار
فارس رحلتنا البيومي ما زال يواجه خسارة الفقد.. وتداعياته على حياة أطفاله وهم يقولون «ماما».
يقولون ماما! كلما عنَّ مشكل
وأولى بهم أن يسكتوا لو تعقلوا
يقولون ماما! ما الذي أنا صانع
ومن دون ماما هم تراب وجندل؟!
يصيحون بي هلاَّ ذهبتَ تعيدها
كأني بردِّ الراحلين موكل!!
شديد على نفس الأب البر موقف
يهيب به أطفاله ثم ينكل
يعذبه إحساسهم برحيلها
وإحساسه الدامي أشد وأهول
مشهد درامي مثير للشفقة والرحمة مثله شاعرنا وصاغه شعراً ناطقاً حروفه مليئة بالحزن.
دائرة حزن بمصابه اتخذت شكل الزلزال.. له توابع وعناوين «رفيقة دربي» و»بعد عامر» و»دار السقام» و»بعد عامين» و»واز وجاه» التي يقول في مطلعها:
بعد أن كنت كل شيء لدي
كيف بالله تبعدين عني؟
ويختتمها متسائلاً:
أمحق لنا؟ سألت ضميري
فأراني صواب هزني جلياً
سلبتني الحياة بهجة أنسي
لم لا أزدري الحياة الدني
المصيبة تجمع وتدفع إلى ديار الصامتين: حيث الراقدين رقدتهم الطويلة.. وحيث صمت الرهبة ويقظة الحس بنهاية الحياة.
شهدت ديار الصامتين فهاجني
سكون يدينا الصامتين مهيب
مقابر خرساء اللسان نواطق
بأبلغ ما يغري الحشا ويذيب
يجيش عظات الناس فيها دوافقا
بما لم يقل في الواعظين خطيب
نعم من لم يكن له من قبره واعظ لن تنفعه المواعظ.. الموت نهاية رحلة ومرحلة لا بد لها من زاد يقيني واستزادة كي تأتي نهايتها خاتمة خير.. وخلود. تتوالى الرسائل لا شيء يعلق في الذاكرة أكثر من تلك الصورة الزاهية في عينيه.. في عقله وقلبه بعد أن ودعته وداعها الأخير.
وهو لا يكاد يصدق غيابها.. يطلب منها أن لا تغيب وكأن الأمر بيدها والرغبة بيده:
لا تغب أيها المحيا الجميل
إن حزني عليك مرَّ ثقيل
لا تغب فالظلام بعدك يشتد
وما عن سماك أنت بديل
إن امسي منذ احتجبت كيومي
مدلهم. والتائبات شكول
ويختتم خطابه الخطب:
ليت شعري وأنه لسؤال
عن شجون جوابه مستحيل
شر ما يبتليك ان تبعث القول
ملحا. والصمت رد مهول
لا تغب أيها المحيا الجميل
ان حزني عليك مر ثقيل
لا تغب أيها المحبا ورفقاً
بالعصافير فالمصاب جليل
المحيا الجميل غاب.. إلا من الذاكرة.. والقلب إن فيهما حي لا يطويه النسيان ما دامت الذاكرة حية بالجميل الجليل من الحب.. ولأن الحياة فإن الموت عشق أيضاً كما يقول شاعرنا العربي البيومي.
صحَّ عندي أن المخية تهوي
مثل أهل الغرام كل جميل
قد تتبعت خطوها فتراءت
صبوات الردى بكل سبيل
واشتهاء الردى بيد يؤدي
بالذي تامه لمرعى وبيل
قد شهدنا أهل الجمال لدينا
أسرع الناس دائماًَ للرحيل
وإذا لم يكن هوى الموت فيهم
فهو أمر يحتاج للتعليل
هكذا يرى الحياة تعشق الجمال محاولة التمسك به لو كانت لها القدرة على ذلك.. والموت يعشق الجمال ويستعجل قبضه إليه. الموت يا شاعرنا حق لا يأخذ من أجل جمال أحد ولا مال أحد. ولا آمال أحد.. إنه قدر إلهي لا مناص منه لأنه نهاية عمر.
شاعرنا زار الهند.. مر بتاج محل تلك التحفة التاريخية الخالدة.. ولأنه ابن الأهرام وما أدراك ما الأهرام رسم مقارنة بين الأثرية.
أذلك قصر الحب ما أبدع القصرا
لعمري لقد سفهت من خالد قبرا
أقبر وفينان الحدائق يرغي
عليه فيكسو وجهه السندس النضرا؟!
أقبر وأنفاس الأزاهير حوله
تفوح فإن سرت تستردع العطر؟!
أقبر ونصاع الرخام يلفه
بأعمدة بيضاء قد رصعت تبرا؟!
وتبدأ المقارنة:
إذا قرنت أهرام خوفو وخفرع
به ضالت وزنا وان خلدت ذكرا
لئن كانت الأهرام ذات جلالة
فليس بها من رائع الحسن ما أغرى
وفي مأتم الشوق بعد أن خرجنا من مآتم الحزن:
يصارع قلبي الشوق وهو وحيد
لقمر الهوى هذا عليه شديد
لقمر الهوى والتبر مجتمع الهوى
طواه عن الأنظار فهو فقيد
تشبث معناه العميق بخاطري
وغلغل في نفسي فليس يبيد
إلى أن يقول:
ترى الرائع الخلاب أصبح تافهاً
فتزور عنه عابس وتحيد
فلا الجاه يلهي باكياً عن مصابه
ولا الحال يغري طامعاً فيصيد
خلائق كالطوفان تبتع قائدا
ويمشي بها في الأرض حيث يقود
تأملات حياتية تحدثت عن القوة التي تغلب.. وعن الحزن الذي يشغل.. وعن السحر الذي ينطوي.. وعن الصحراء المفزعة التي جبن أن يسعى إليها.. وعن الأحلام التي تحكي له مصيبة.. ونهاية يخاطب شقيقة نفسه:
شقيقة نفسي كل ما بك من ردى
لديَّ فإني في الحياة شهيد
بنا منكِ فوق الرمل ما بكِ تحته
كلام قديم عاد وهو جديد
وقائله عزى سواه ولم يصب
فإحساس مهما استفاض زهيد
إذا شقي الحي الجزوع بهمه
فإن الذي يلقى الحمام سعيد
هكذا بدت لك الحياة حلبة صراع مع المعاناة والمكابدة عاشها كغيره.. وتذوق مرارتها كسواه.. في مأتم حزين عنوانه «مأتم الشوق» أو الشوك لا فرق. ومن المآتم إلى الوهم الجميل يأخذنا معه كي نتذوق عذاباته، وعذوباته مكرهين لا طائعين:
تراءت شجيراتها من بعيد
ترفرف شوق، وغنَّى نشيد
تذكرتُ أمسي بأفيائها
أروض البيان، وأروي القصيد
فقلت أفيء إلى ظلها
لأجني عهد الشباب الفقيد..
نسي شاعرنا أن الشباب لا يعود.. وأن ذكرياته مجرد عهدة للتذكير فقط ألم يقل الشاعر القديم:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب
همُّ شاعرنا محمد رجب بيومي ساعة يبدد فيها هموم حياته.. هل يقوى.. ومع استطاعته هل تحقق له ساعته الحلم وقد انقضى العلم.. أشياء اشتاق لرؤيتها جمال النخيل. صفو الغدير. وثب الطيور. حدو ا لرعاة. أرجوحة الدوح. زركشة الأفق.. وفي النهاية عاجلته الآه:
أعاد شريطاً لماض نأى
فآه لأحداثه. ثم آه..
هذا كل ما انتهى إليه وهمه الجميل وقد حجبه ضباب الماضي عن الحاضر.. محطات مررنا عليها خفافا لا ثقالاً «بأي اتجاه». «عصمت ورجاء» لنحط سوياً معه في محطة «لا جديد».. إذ لا جديد تحت الشمس.. الجديد اكتشافه.. ماذا قال:
فارقونا.. وباطل لن يعودوا
كيف داراهمو المكان البعيد
زينوا طلعة الوجود فلما
تركوه دجا علينا الموجود
تركوا حسرة الفؤاد وراحوا
حيث لا يلتقي بهم مفئود
من هم هؤلاء الذين عناهم الشاعر في شعره؟
دفنت أعظم. وهيل تراب
وتوارى لحد وقامت سدود
وجلسنا لدى الضريح طويلاً
ومضينا وليس ثمر جديد
هم أحياء الموت؟ أم تراهم أموات الأحياء؟.. يبدو أنهم من رحلوا ولم يموتوا؟
كيف نلقاهموا وحاجتنا القصوى
إليهم على البعاد تزيد
زورق يمخر العباب إلى حيث
ترامى به الفضاء المديد
وما دمنا مع حكاية الموت فإن للشاعر مقدرة شعرية على انطاقه هذا ما يبدو ومن عنوان مقطوعة ديوانه الختامية «الموت يتكلم» أي شاعر هو الذي يتكلم نيابة عنه:
يا من يراع إذا ما تمثل صورتي فيم ارتياعك؟
هوّن عليك ففي ابتعادك عن بني الدنيا انتفاعك
لك ضجعة عندي ترجك. هل سؤذيك اصطجاعك؟!
أولستَ من دنياك تسبح في خضم هائل؟
يغشاك موج فوق موج تحت غيث هاطل
لم لا تسر إذا وصلت مبكراً للساحل؟!
أنا في الحياة كمنجل في كف حصاد بصير
أهوي على الذاوي فأقصيه عن الزهر النضير
لولا مبادرتي لضاق الروض بالعدد الكثير
ويبدو المشهد الجنائزي الأخير على حد قول محمد رجب البيومي:
يا من يراع إذا تمثل صورتي فيم ارتياعك
هوِّن عليك ففي ابتعادك عن بني الدنيا انتفاعك
ديوان بدأ بالرثاء لميتين.. وانتهى بالموت نفسه وهو يطبطب على أكتاف الناس قائلاً لهم «لا تخافوا» جئتكم كي أريحكم من نصب هذه الدنيا وشقاوتها «وبين الميتين والموت» حكاية تحتاج إلى قراءة وتأمل.
الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338