Culture Magazine Thursday  26/04/2012 G Issue 371
فضاءات
الخميس 5 ,جمادى الآخر 1433   العدد  371
 
غِيَابُ المُسَمَّى
بَرْزَخِيَّاتُ المفَاهِيْمِ المَابَعْدِيّةْ
ياسر حجازي

 

(أ)

السَّلامُ علَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، (أَمَّا بَعْد)..

الفاصلةُ في غُرّة الخُطَبِ، الرسائلِ، بعد التحيَّة، أو بين مواضيع المتون، تُوحي بدلالات تتجاوز التعاقبيّة، منها: (الانتباه والاستعداد تحضيراً للسامع أو القارئ)، (التعارض بين مدلول المبتدأ السلميّ واحتمال تجاوزه في المتن إلى مدلول لا سلميّ)، (فصل المواضيع)؛ والأخيرة لم تكن خافية عن الأوائل، فقد زعم بعضهم -تأويلاً- أنّ (فاصلة أمّابعد) هي معنى «فصل» في (الآية 20 من سورة ص): «وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب». وللكلمة في العربيّة أصلان: (خلاف القُرب، ومقابل قَبل)، وفي الإنجليزيّة: فإنّ معاني كلمة (Post) عديدة ومتفرّقة، يهمّ المقالة منها: «موقع، مركز، لصق، تابع، عتبة، ما بعد».

ومجموعة المعاني والدلالات المتفرّعة من (ما بعد) في (العربيّة، والإنجليزيّة) ترتبط بطريقة أو بأخرى باستخدامات (ما بعد) الاصطلاحيّة ومفاهيمها في التوظيف التاريخيّ أو الفكريّ الثقافيّ؛ حينما تتدخّل في مسارات التاريخ تقليماً للأطوار، أو فصلاً للمراحل، أو تركيزاً على أحداثٍ مفصليّة (فاصلة) أو انتهائيّة (نقطة)، أو تقويماً للتيارات الفكريّة من داخلها.

(ب)

يستند الإنسان إلى (الحدثيّة والما بعديّة) مصدراً لتأرخة الأيّام، وغايةً في (الذاكرة، التعلّم، التحوّط، والمركزيّة) ولعلّ غالبيّة الأمم يبدأ محتواها التاريخ بقصّة الطوفان أو ما تشابه معها، فيكون الحدث نقطة لنهاية إنسان قديم (.) وبداية إنسان جديد (ما بعد الطوفان). وأشهر التقاويم اليوم منسوبة لأحداث تاريخيّة ودينيّة، حيث ما بعديّة التاريخ الميلادي، والذي أرّخ (ما قبل) أيضاً، بحيث لدينا تاريخ يعتمد (ق.م). وكذلك حال التاريخ الإسلاميّ المعتمد على الهجرة النبويّة بحيث هناك (ما قبل/ما بعد) الهجرة، علماً بأنّ النصّ القرآني جعل من (فتح مكّة) حدّاً قيّماً للفصل بين ما قبلها وما بعدها: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ..} (10) سورة الحديد

ولئن كان التغيير اشتراطاً أساساً في (الما بعد) فإنّه ليس الضامن للإيجابيّة، بل هو معيار لحقيقة وجود (ما بعد)؛ فمثلاً: (ما بعد أحداث أيلول/سبتمبر..) حدث يستدعي الانتباه، عدم النسيان، التحوّط، لذلك لا تتحقّق (ما بعد) إلا بإنجاز إجراءات وتشريعات تغيّر أو تقلّل من احتمالات التكرار.

(ما بعد) إذاً، أداة بدائيّة لتأرخة الأحداث، ما زالت صلاحيّة الانتفاع بها قائمة حتّى تاريخه، لطالما كانت ذات دلالات في اللغة لا تقوى عليها أرقام السنوات المجرّدة، والتي بحياديّتها لا تُبالي ولا تفرّق في قيم الأحداث. وهذه الأداة بمعناها البدائيّ أيضاً لا تخلو من دلالة التغيير عن (الما قبل).

(ج)

يكثرُ شيوع (ما بعد) مُضافة لأحداث تاريخيّة، وأفكارٍ واتّجاهات ثقافيّة: «ما بعد النهضة، ما بعد الحداثة، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد نهاية التاريخ، ما بعد أحداث سبتمبر، ما بعد العولمة، ما بعد ثورة الربيع العربي...» وبديهيّاً، أنَّ هذا المضاف التابع مُرتبطٌ بطريقة بالمضاف إليه؛ أمّا طرق الارتباط ومفاهيمها فمحلّ اختلاف؛ فالنماذج التي ذُكرت آنفاً، تتفاوت بين التوظيف الفكري والتاريخي، والتأمّل فيهما يفضي إلى مجموعة من المتشابهات وأخرى متفرّقات؛ (فما بعد) -تاريخيّاً- حمّالةُ مفارقاتٍ (بارادوكس-Paradox): (التبعيّة والاستقلال في آنٍ) حيث إنّ (ما بعد) تابعٌ (لما قبل) بالأصول وفي الوقت عينه مستقلّ عنه بالتغيير، وثقافيّاً وفكريّاً: فإنّ (ما بعد) حمّالةُ دلالاتٍ ذات إعادة تقويم، نهوضاً عن الإطارات المغلقة والثوابت النهائيّة، تبعاً لمفهوم: (اللا انتماء-اللا انفصال)، حيث إنّ (ما بعد) لا تنتمي إلى التيّار الفكريّ الخارجة عنه، لكنّها أيضاً -وهذه المفارقة- لا توجد إلاّ به.

وتمثيلاً على الما بعديّة لتبيان المفارقة: نجدّ أنّ مصطلح (ما بعد الحداثة) هو -بحالٍ- ليس مصطلح الحداثة، فدلالة المصطلح توحي (أوّلاً: باللا-انتماء) حيث الدلالة البديهيّة للما بعد كامنة في التجاوز، لكنّه أيضاً -وهنا معضلة الما بعديّات- على ارتباط بالحداثة ولا يكون إلاّ لصيقاً بها؛ فكينونته مرهونة بكينونة (ما قبله)، وهذه دلالة توحي (ثانياً: باللا-انفصال)؛ وكلا الإيحائين يعبّران عن مأزق في اللغة حين تتصادم مع منطق البارادوكس الرياضي: الذي لا ينتمي لمجموعة الصواب ولا ينتمي لمجموعة الخطأ، وهو في الوقت عينه لا ينفصل عنهما.

(د)

الأصلُ في (الما بعد) أيّاً كان نوعها وأينما وقعت، أنّها تقابليّة تتضمّن مفهوماً مُحدّداً: (ما قبل) -عادةً ما يكون جوهر كينونتها/جذرها- فتسعى لتغييره. وهذا ما يسمح بتشكيل برزخ طوباويّ -لا يُسمّى- برزخٌ مُستقلّ على الرغم من تبعيّته وحملانه للأصول ذاتها التي يحملها (ما قبل)؛ وإن لم يكن وفق دلالاتها المحمولة سابقاً، بَلْ يتداولها على غاية تطويرها وتغيرها؛ وهذا اشتراطٌ في (الما بعد) وإلاّ فقدت معنى الإعادة والتغيير وسقطتْ في التناسخ والتكرار. وعلى هذا المعنى يكون البرزخ متمّماً ما يظنّه نقصاً في قيمة الأصل: ويكون انفراجا في سدود تأويلاته وتأمّلاته الفكريّة، أو ابتداءً في نهاياته عند ممارساته وإجراءاته التاريخيّة، أو إصلاحاً في عيوبه في تطبيقاته الإنتاجيّة؛ وهذا ما يجعل (الما بعد) ارتباطاً (بارادوكسيا وتقابليّا) بما قبلها أو بطوطمها، وتغييراً عنه. فليس النهوض بهذه الأعمال غاية إقصاءٍ إنّما علّة تغييريّة/تقويميّة؛ فطوباويّة البرزخ هو ظنّها أَنّ بإمكانها أن تعدّل وتغيّر ممارسات (ما قبل) على نحوٍ مثاليٍّ مخالفاً لممارسات (الما قبليّة)، وإن كان التغيير أو الما بعديّات على مستوى الإنتاج الصناعي والتكنولوجي يسير وفق منهجيّة إنجازيّة بحيث إنّها في (إعادة تصنيع المنتجات) ترتكز على التطوير بمعالجة الأخطاء المرصودة في (الما قبل)، لكنّ الأمر في الفكر والتاريخ لا يمشي على هذا النوع من التطوّر والإعادة التجديديّة، حيث المأزق في الفكر والتاريخ يكمن في مفاهيم الجديد، التغيير، التكرار: وهو مأزق الملل النيتشويّ من وراء العود الأبديّ، التكرار التناسخي.

فما هي (الما بعد) إذاً؟ ما هو (الما قبل)؟

لعلّ الغموض -الغالب على شكل الما بعديّات حال نشوئها- ناجمٌ عن غياب الاسم، ورغبة الانفصال عن (الما قبل) على الرغم من كونه المعلوم والمؤثّر؛ فلئن كان الاسم هويّة وماهيّة فهل تعتبر (الما بعد) فاقدة للهويّة والماهيّة لكونها (سيناً: مجهول الاسم)؟ وإلى أي مدى يمكن أن يكون للشيء شكلاً حينما يفتقد إلى الاسم؟ فأسماء الأشياء عينُ وجودها؛ وعلى صعوبة أنْ تُعرّف (مَا لا اسم له) فإنّ المحاولة لا بدّ منها تحايلاً على (غياب الاسم) بإحلال البديل (ما قبل/ ما بعد).

ما هو (الما قبل)؟ هو معلومٌ في دلالاته للقيم التي حملها والتجارب التي أنجزها، وهو المتحوّل من قائمٍ للتنفيذ إلى مرجع للقياس، وهو المُنتهي حاضراً والبادئُ كمرجعٍ تقابليّ (للما بعد).

أمّا (ما بعد) فإنّها مآلٌ واحتمالٌ (طورٌ/فكرٌ/منتجٌ/شيءٌ) لا اسم له، يتضمّن مفهوماً (ما قبليّاً) -هو جوهرُهُ- غايةً في تجاوزه أو إصلاحه أو إلغائه؛ ويعدّ التغيير والاختلاف أهم ضوابط وجود (الما بعديّة) إضافة إلى وجود الحدّين (النقطة، أو الفاصلة) والتشريعات والمفاهيم الناجمة عن دلالات مغايرة.

الأصل أنّ كلّ (ما قبل) معلومٌ ومُحدّدٌ، وكُلّ (ما بعد) مُؤَوّلٌ ومُفترضٌ حتّى يتحوّل إلى مُسمّى بالمُنجز التغييري؛ وهذا المآلُ الاحتمالُ يمكن إدراكه وفقاً لقراءة (ما قبل)؛ فالغالبُ في برزخيّات الما بعديّات: نقصان اكتمال صورة آثار الراهن الفاصل، وعدم ثبوتيّات نطاق الافتراض؛ ويبقى المنجز المصدّق على وجود (الما بعد) وقيمتها بين احتمالات إعادة التجربة مع تجنّب الأخطاء والإشكالات ممّا يؤدّي إلى التغيير الإنجازيّ، وبين مأزق غلبة التكرار التي تُفضي إلى تماهي (الما بعد) في (الما قبل) دون تغيير أو إنجاز.

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة