Culture Magazine Thursday  20/12/2012 G Issue 390
فضاءات
الخميس 7 ,صفر 1434   العدد  390
 
اخترت الصمت أنا حرفة
د. لمياء باعشن

 

بورو.. بورو.. بارواة

يا أكّال الحلاوة

إن كان جيت تكلمني

لأضربك باصباع رجلي..!

يعرف من عاش طفولته في مدن الحجاز أن هذه الأنشودة لا تعبر عن مرح أو ابتهاج، بل هي أنشودة تعلن عن خصام قائم بين طفلين وأنهما يُشهدان الشهود على القطيعة القادمة. يمد كل طفل سبابته ووسطاه ليضرب بها إصبعيْ الآخر، وبذلك تكتمل طقوس « الفتنة» أي التوقف عن تبادل الكلام، ويعرف الجميع أنهما « متباريان». وكلمة « بورو» في الأنشودة ليست دخيلة، بل تعود إلى فعل « بارى»، إذ المقصود أن يدخل الطرفان المختصمان في مباراة تبين من منهما لديه القدرة على احتمال القطيعة الكلامية مدة أطول ، لذا يأتي التحدي في السطرين الأخيرين على شكل تهديد بأن من يخطئ أو ينسى ويكلم الآخر سيجد الإهانة بانتظاره!

هذه الأنشودة على عفويتها تحمل بذرة الفتنة والعداء، وهي تصغير لرقصات الحرب والأغاني الحماسية التي ترحب بالمعارك وتشجع على الصمود والمقاومة. والطفلان بحاجة إلى تقوية وتثبيت، فهما مقدمان على أمر في غاية الصعوبة، كل منهما سيشيد سداً شاهقاً يمنع تسرب الكلام الذي اعتاد أن يتدفق بسلاسة في اتجاه الآخر، سيجبر نفسه على تهميش رفيقه وعلى إهمال وجوده تماماً، سيجبر نفسه لأنه وضع كرامته على خط العودة. ولا يكون لهذه الأزمة من مخرج سوى أن يتدخل طرف ثالث، شخص أكبر سناً، لعقد الصلح بينهما، وحينها يمد كل من الطفلين خنصره ليعانق به خنصر الآخر، فترتفع السدود وتعود المياه إلى مجاريها.

عندما نختار الصمت ونضرب سياجه بيننا تكبر الهوة التي تفرقنا وتتسع، ونشعر بالجليد يجمد عواطفنا تجاه بعضنا، ثم نتحول إلى أشباح تتحرك بلا حياة. نحن لا نعني لبعضنا شيئاً إن لم نتبادل الحديث، وقد نكون متقاربين في المكان حد الالتصاق، لكن الصمت يباعد بيننا المسافات فنتلاشى في أعين بعضنا، وعلى العكس فقد نتباعد في هذه الأرض آلاف الأميال لكن الصوت يربط بيننا برباط وثيق ويدخل كل منا إلى قلب الآخر. ومن هنا كان عشق الأذن قبل العين، فلجهاز السمع عند الإنسان قدرة على خلق صورة ذهنية تكمل الاتصال المنقوص. هويتنا إذاً تتكون في أقوالنا التي لا يعوضها صوت ذهني، وصمتنا هو امتناع عن استخدام أقوى أداة لدينا لتأكيد تفردنا الذاتي وهي الصوت، والمرء حقاً لا يكون إلا بأصغريه قلبه ولسانه.

الكلام ليس مجرد صوت بل هو انسجام ومسئولية: هو فعل اجتماعي التزامي يقارب بين الأفراد بتأهيله فرص المشاركة في مجتمع لغوي، ولكنه أيضاً فعل طارد يباعد بينهم: ازدواجية طبيعة اللغة هذه تجعلها تحمل فرصة التواصل إلى جانب خطر التنافر ذلك أن الحقيقة تتشكل في فضاءات اللغة، والكلمة إن زل بها اللسان ستنطلق ولن تـُسترجع أو ينعكس مسار أذاها المحتمل، فالأفضل لنا أن نجير للصمت ما قد يوقعنا في حرج شديد.

والصمت حالة من القرف تصيب من يعرف أن كلماته لا تجد صداها في عقول لا تعقل، حينها يترفع الحكيم عن الخوض في حديث غير مجدٍ:

قالوا نراك طويل الصمت قلت لهم

ما طول صمتي من عيٍّ ولا خرس

الصمتُ أحمد في الحاليْنِ عاقبة

عندي وأحسن بي من منطق شكس

قالوا وأنتَ مصيبٌ لست ذا خطئ

فقلت هاتوا أروني وجه معتبس

أأنشرُ البِّر فيمن ليس يعرفه

أم أنثر الدر بين العمي في الغلس؟

يكون الصمت اختياراً كآلية تعبير حين ينعدم التواصل مع الآخر ويصبح الصوت والخرس سيان، فوسيلة العبور لا تنقلنا للغير حين تعاني دلالاتها قصوراً عند الطرف المتلقي، لذلك يعف لسان العاقل عن النطق ويعتمد بلاغة الصمت، وبذلك يعلن الشاعر عبد الله البردوني في قصيدته

(حوارية الجدران والسجين) قرار اعتزاله ممارسة الكلام:

إطلاق الأحرف حرفتكم

اخترت الصمت أنا حرفة

وقد يكون السكوت من ذهب لكن الصمت يصبح تعبيراً سلبياً في مواقف حيوية تتطلب الخروج من الهامشية إلى ساحة الفعل. والسكوت الأخرس عن قول الحقيقة بسبب الخوف قد يكون تخاذلاً وتحسباً من عاقبة التورط بكلمة حق، فالحق ينتهكه التزييف ويقهره الصمت. لكن تحاشي سلطة الآخر وتجنب غضبه تدفع في أحيان كثيرة إلى توهم الأمان في جنح الصمت. قالوا: تكلم عدد من الرجال في مجلس معاوية، إلا أن الأحنف بن قيس ظل ساكتاً، فقال معاوية: « مالك لا تتكلم يا أبا بحر؟» قال: « أخافك إن صدقت وأخاف الله إن كذبت».

وتحثنا التربية الاسلامية على أن نقول الحق ولو على أنفسنا، لكن الدستور الأمريكي يعطي الحق للمتهم في السكوت إن كان ما سيدلي به قد يُسهم في تثبيت التهمة عليه، فيحتمي بما يسمى بقانون الإصلاح الخامس (Fifth Amendment) ليتحفظ على أقواله وينجو من مغبة تجريم نفسه. إن الصمت حصن يقي من الوقوع في الزلات لذا فإن أفراد عصابة المافيا مثلاً يلتزمون بالحفاظ على ميثاق الصمت، أو عهد « أوميرتا» ( omerta ): أي التواضع باللاتينية، وهم يغلقون أفواههم بإحكام كي لا تتسرب معلومة ما توقعهم في شراك الخيانة العظمى التي قد تكلفهم حياتهم. وعلى الجانب الآخر يضع أفراد الشرطة ولاءهم للوحدة التي ينتمون إليها فوق كل اعتبار ويمتنعون عن إبلاغ السلطات الرسمية بأي معلومات ضد زملائهم تمسكاً بعهد « الجدار الأزرق» (Blue Wall Code).

والإنسان قد يتخذ الصمت موضع قوة وقد يتخده موضع ضعف، وخوفه من التصريح بما يجلب له المتاعب يوازيه قراره بالإضراب عن الكلام كما فعل غاندي تسجيلاً لموقف جبار واحتجاجاً على أوضاع مرفوضة، وهنا يكون للصمت صراخ يصم الآذان أبلغ في وقعه من التنديد والتذمر الملفوظ. فالصمت ليس تعبيرا عن الرضى في كل الأحوال، بل يكون أحياناً كظم لغيظ عظيم يغلي كبركان في داخلنا ولكننا لا نجد قوالب كلامية تحتوي غضبنا الذي يفيض عن طاقتها، فيكون ملاذنا الوحيد والمتحدث الرسمي بما لا يمكننا قوله هو الصمت الرهيب.

lamiabaeshen@gmail.com - جدة
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7712 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة