Culture Magazine Thursday  20/12/2012 G Issue 390
فضاءات
الخميس 7 ,صفر 1434   العدد  390
 
مفسدات حوار الاختلاف الثقافي (3)
«صراع الأرباب الثقافية»
سهام القحطاني

 

«الفساد يمر من هنا» عبر الفاعل الثقافي الذي يتحوَّل من كونه باحثاً عن الحقيقة ومفكراً فيها إلى وهم أنه المخول بصناعة الحقيقة، وهو وهم يحوِّل الفاعل الثقافي إلى «رب ثقافي».

فكما أن لا أحد منا يستطيع امتلاك الحقيقة فلا أحد أيضاً منا يستطيع صناعة الحقيقة، أو هكذا أعتقد.

فالثقافة لا تسعى لصناعة الحقائق بل تسعى إلى البحث داخل الحقائق أو عنها، كما أنها مُعين على تشكيل محتوى الحقائق والتبشير بها ومراقبة تطبيقها.

وتلكم مرتكزات قد تساعدنا على «فهم وظيفة المثقف» في المجتمع.

نعم، ما زلنا نعيش في فوضى تأسيس وظيفة المثقف، وهي فوضى يتسرب من خلالها مفسدات حوار الاختلاف الثقافي.

لأن من مُفسدات أي نظام مدني عدم ضبط المصطلح المؤسس لذلك النظام ووظائف فاعله وحدود تأثيرهما، وهو ما يؤدي إلى خلط المصطلحات وتداخل وظائف فواعله وتصادم حدود تأثير كل منهم، وذلك ما ينشئ صراع الخلافات الثقافية والفكرية.

ولعل من أهم مفسدات حوار الاختلاف الثقافي هو «مجهولية وظيفة المثقف في المجتمع».

فما هي وظيفة المثقف في المجتمع؟ ومن أين تبدأ تلك الوظيفة وأين تنتهي؟

قد يعتبر البعض أن السؤالين السابقين من بديهيات الأولويات في النظام الثقافي، وأصحاب هذا الرأي المبني على اعتبار الأولوية البدهيّة يقصدون به وجوب تجاوزه على سبيل الإنكار كمسوّغ لمأزق الإفساد أو مفسدة في ذاته.

وأنا أتفق مع الرأي بأن السؤالين من الأوليات والأولويات البدهية في النظام الثقافي، لكنني لا أتفق معه من كونه اعتباراً بدهياً يلزم تجاوزه على سبيل الإنكار من تأثيره، سواء كمسوغ للإفساد أو تحقيقه إفساداً في ذاته.

وبالتالي فمسألة التجاوز ها هنا ليست عارضة حتى نستخف بتأثيرها، أو نقلل من أهميتها، خاصة أن لدينا تجربة فاشلة نتيجة وهم التجاوز على سبيل إنكار التسويغ والتأثير، ما زلنا حتى الآن ندور في توهانها، وما نعانيه من مجهولية وظيفة المثقف هي نتيجتها.

وأقصد بالتجربة الفاشلة عجزنا عن «ضبط أوليات وأولويات مصطلح المثقف» وعجزنا عن ضبطه بسبب إدخالنا ذلك المصطلح دائرة اعتبار بدهية الأولوية.

وهو اعتبار رفع عنه قسراً سؤال الفهم والدلالة؛ ما أضر بأصالة المصطلح، والدليل أننا حتى اليوم في مشهدنا الثقافي لم نتفق على «مفهوم محدد للمثقف»، وهو عدم اتفاق راكم على طاولتنا الثقافية العديد من الصراعات الثقافية.

ومن الطبيعي أن الخلاف على «حد المصطلح ودلالته» يُنتج الخلاف على «وظيفة من يمثل ذلك الحد ودلالته».

وتجاهل أولويات الضبط الاصطلاحي الذي يُسهم على الافتراض في رسم خارطة الطريق للمثقف عبر أدواره الوظيفية في المجتمع، أقول تجاهلها أدى إلى وقوع المثقف في دائرة من التوهان، ووهم التجاوز الذي اعتبره الجميع مساوياً للتجاوز ذاته، والذي تحوَّل فيما بعد إلى إشكالية الدور والمسؤولية عند المثقف السعودي؛ لأن المثقف السعودي حاول تعويض وهم التجاوز عن طريق استعمار شمولية الثقافة، بدلاً من تمثيل دوره الوظيفي في منظومة العقل الاجتماعي.

ليس صحيحاً - وفق ما أعتقد - أن الأسئلة المركبة هي مصدر الخلاف والصراع بين الأرباب الثقافية؛ إنما الأسئلة البسيطة هي دائماً مصدر الخلاف وصراع الأرباب؛ ليس لأنها مُظهرة للتناقض الحدي الذي يحرض على الخلاف والإفساد الفكري فقط، وليس لأنها تحمل في مضمونها الرموز الوجودية للأشياء التي يتمثل من خلالها الواقع الحي فقط، وليس لأنها تملك مفاتيح التأويل مما يحولها إلى آليات التعقيد فقط، بل لأنها - رغم كل تلك الخصائص - هي التي تشكل قاعدة الأوليات والأولويات، ومتى ما سذّجنا تلك القاعدة على اعتبار أنها بديهيات اقتضائية حولناها إلى فرض كفاية بالتجاوز!

ويكمن خطر فرض الكفاية بالتجاوز في أن خدعة وهمية التجاوز قد تجبر وعينا على الظن بالاكتفاء الكامل بما حصلنا عليه من ضبط ما يناسب صلاح الأوليات والأولويات، بمعنى حدوث تشكل خاطئ لقاعدة الأوليات والأولويات.

ووهم ظنية كمال الاكتفاء بصلاح الأولويات والأوليات هو الذي يدفعنا إلى تجاوزها كجذر لتشكيل قاعدة الضبط عبر معادل يغطي فراغ قاعدة التشكيل أو تشكيل خاطئ للقاعدة، وهو يتساوى مع الفراغ المجاز في التأثير.

وذلك هو الذي يُحدث الخلل والتناقض في المدونة الإجرائية للمفاهيم والمعايير؛ فكفاية المعلوم لا تتحقق بكفاءة الأقلية بل بقدرة المجموع على تطبيق كفاية المعلوم.

وهنا لا يمكن أن ندعي أن فرض الكفاية قائم مساوٍ لوجوب الاكتفاء.

وأي ادعاء يصف في جانب مساواة فرض الكفاية بوجوب الاكتفاء يضر بمنهج المعيارية.

قد يقول متذكِّر لِما قلته في الجزء الأول من هذا الموضوع إن المعيارية تُفسد الاختلاف الثقافي لِما فيها من شبهة الأحادية، والآن أطالب بتدخل المعيارية في حل إشكالية مجهولية وظيفة المثقف وكمالية الاكتفاء الحقيقي لقاعدة الأوليات والأولويات.

والأمر لا يحمل تناقضاً؛ لأن المعيارية التي رفضت وجودها هي معيارية الرأي التي تحول الاختلاف الثقافي إلى «متضادات: الصواب والخطأ، الحق والباطل، الإلحاد والإيمان».

لكن المعيارية التي أطالب بوجودها هي معيارية الضبط؛ وضبط أوليات المصطلحات واجب منهجي، وغياب معيارية الضبط يؤدي إلى فوضى الإحالة وتناقض الممثلات وتقطع السياق، وهو ما يهدد بأصالة «الحقل المعرفي» للمصطلح.

وكما أن شرطية معيارية الرأي تؤدي إلى صراع الأرباب الثقافية فكذلك غياب معيارية حدية ضبط المصطلح وممثله يؤدي أيضاً إلى صراع الأرباب الثقافية.

وأصالة المصطلح لا تتمثل من خلال ضبط الحد فقط بل تتمثل أيضاً بمصاحبة ضبط وظيفة ممثل الحدّ، وهو أمر طبيعي؛ فالاتفاق على حد المصطلح ودلالته يُنتج اتفاقاً على وظائف ممثلي الحد ودلالته وسلاماً بين الآلهة الثقافية.

وكما أن غياب معيارية ضبط الحد يهدد أصالة «الحقل المعرفي» للمصطلح فالأمر كذلك بالنسبة لغياب معيارية وظائف ممثلي الحد ودلالته؛ فهو يهدد فاعلية الحقل المعرفي على مستوى مدى صلاحية تطبيق غاياته وآلياته للعقل الاجتماعي.

والصلاحية هنا لا تتحقق إلا من خلال وعي الوسيط الثقافي بحدود وظيفة الوسيط وآليات تلك الوظيفة؛ لأن وهم شمولية الوظيفة هي التي تؤدي إلى صراع الأرباب الثقافية، والمنطق الفرعوني لامتلاك خلق الحقيقة.

- جدة
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7333 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة