Culture Magazine Thursday  20/09/2012 G Issue 380
فضاءات
الخميس 4 ,ذو القعدة 1433   العدد  380
 
عش نورس
من يوميات شاب مصاب بالسرطان (عثمان حمو) «1»
ميرفت عبد الرحمن السحلي

 

الأيام دومًا مغادرة.. وجسد حولوه إلى ورقة في إعصار

عواء السفن الراحلة، وصرخة الحقائب المتخمة بالتوتر.. العيون مفترشة بالانتظار.. الأرقام على شاشات الزمن مبرمجة على العد التنازلي لاندلاع طلقة السفر الموقوتة، وقتل الخطوات المتمهلة.. تودع الشرفات المشرعة على المدى.. حزن الشرفات وحزن المدى.. أعدو وأعدو لأصل إليه... انه الأديب المبدع عثمان حمو.

أهتدي عبر صرخات أوجاعه داخل أعماله الأدبية إلى دربه.. ساوم النزع الأخير لصهيل الروح حتى لا تبلغ الحلقوم ؛ فيودع القامشلي وبطش حكامها - أرض الكُرد بسوريا - ويحملها معه في قلبه، يلملم أشلاء الذاكرة، وينشج فيه صراخ النخيل، ونبرة التجاعيد بوجه الغيوم.. وشهقة آهة قمط عليها حلقه، وخاصرة الظلال في ممرات الكلام الطويل، أبدأ أتحاور مع آلامه في سفر غائر لأعماله القصصية «من يوميات شاب مصاب بالسرطان: الرابع عشر من آذار.. عقارب ساعتي تدور أبدًا.. الشمس تغرب كل يوم أسرع من موعدها - لماذا الشهر؟!... ثلاثون يوما فقط؟»

يبدأ الكاتب قصته بعيدًا عن الأسلوب التقليدي لتصاعد الحدث التدرجي، إنما بدأها بذروة لحظة التنوير للنتيجة الحتمية ؛ فهي يوميات شاب مصاب بالسرطان.. حكم الإعدام القدري.

يحول الكاتب المشاهد إلى شخوص، والحدث إلى أرقام تقويم منجرفة نحو النهاية، والزمن إلى قطار يلتهم الجراح بنهم مروع.

يتجول بعيون بطله الدامعة، يبحث عن تميمة ظله في نزف الياسمين.. إنها النظرة الأخيرة يلقي بها على الأشياء والتفاصيل والوجوه والذكريات بعالمه الصغير، ينقل نظراته تدريجيًا، تسلط ضوءهما الخابي على شخوص قصته الواجمة في كف الحنين.. «أمه التي هي من ليلة أمس على أصابعها قطرات من وضوء الفجر».. أباه الصامت كقلم حبر.. أخوته اللذين «يتشممون كفنه في الخفاء».. أصدقائه الذين ضحكاتهم كخبز فرن العنترية.. الشارع للحياة فيه رائحة شهية.. حبيبته التي كلما خرج إلى الشارع كان يشم بقايا عطرها، وما عادت تتعطر.. وأخيرًا.. مدينته والتي يتحد معها بلحظة الحسم المباركة.. تتحد بصورة أمه.. مترع بأحلام النوارس.. مثقل بوجع القطيع.. والربيع ينتفض في خاتمة الملحمة.

«الخامس عشر من آذار: أمي.. تمر من فسحات بيتنا، أسمع حفيف ثوبها الخائف.. أشم دفء حضنها.. أشم بكاءها البائت.. من ليلة أمس، على أصابعها قطرات من وضوء الفجر.. أمي.. أصطف على أناملها كل الأنبياء.. تأتي بصحن الشاي.. تجبر شفاهها على ابتسامة بلا أوراق.. في جوفها دمع بحجم الكون.. أمي: لا تبكي اذا ما رحلت.. لا تجعلي أزهار الرمان حزينة.. أمي: عيونك أجمل حين تضحكين»

دموع الأم تنتفض بحجم الكون.. مروا على جبينه ؛ فاندلع الغمام للتو.. وببركان ابتسامة بلا أوراق كانوا يصرخون.. لا تفارق.

تتداخل أنواع الأدب، تنصهر مع بعضها البعض - إنها الكتابة عبر النوعية كما أطلق عليها إدورد خراط، وشارك في نضجها أدباء الرومانتيكية بالأدب الإنجليزي كصامويل كلوريدج - لتكون الأسلوب المميز للأديب عثمان حمو ؛ فيتخذ ركيزته الأساسية الصورة الشعرية، كما يحافظ على الموسيقى الداخلية للنص في جميع كتاباته القصصية ولهذا كانت الأكثر عمقًا لتتخلل ثنايا الروح لدى القارئ.

«السادس عشر من آذار: أبي.. أنت هادئ وقوي، صامت كقلم حبر.. أرى شعرك يشيب خارج الوقت.. أرى عينيك نافذتين مكسورة الزجاج، وأسمع كيف تتكسر جرار الفخار فيك كفيل عجوز.. أبي: أنا عامودك الفقري.. عامودك المهزوم.. أعذرني أبي !»

يتصاعد عثمان حمو بالزمن الذي بدوره يقرب من النهاية، فينتقل من حالة الألم تحت عباءة القدر إلى الالتحام بالقدر ذاته ليخرج من الألم إلى الشعور بالذنب فيما لا يد له فيه كالورد يتخاذل معتذرًا عن لونه الأحمر وقت الحداد.

«السابع عشر من آذار: أخوتي يخططون لانقلاب على الضحك، أصواتهم ناعمة لا كما المعتاد.. عيونهم تحضنني بعمق كلما مروا، يختصرون الكلام، وينظرون إلي كقادم من الفضاء... إخوتي.. يشمون كفني في الخفاء» وكما يقول جبران خليل جبران:»المحبة لا يعرف عمقها إلا ساعة الفراق».. ويبرز عثمان حمو الصراع النفسي والتي تحدثت عنه مدرسة (يونج) للتحليل النفسي عن تغير نظرة البشر تجاه الراحلين ليكون الصراع فيما بين أنين الفراق، والغربة الكائنة في كينونته التي سرعان ما ستنتمي لعالم آخر فينظرون إليه كقادم من الفضاء ؛ فيكتشفون العناق بلغة المقل. وبدون صوت كانوا يصرخون «لا تفارق»

داخل الزحام، أو خارج أبواب الدخول.. النهايات ترقص بعناية فوق زخم الذكريات.. تتحد باهتمام مع الحصى.. يتصاعد مواء عديد من قطرات المطر.. كانوا يصرخون.. لا تفارق

« الثامن عشر من آذار: أصدقائي جاؤوا.. تغيروا كثيرا.. معاطفهم رطبة.. ضحكهم كخبز فرن العنترية - رماد، ورائحة مازوت.. لا يجادلون كما كانوا.. هادئين كقطط جميلة.. أصدقائي غادروا.. تركوا صورهم في السجاد.. تركوا بعض دفئهم على وجهي... وغادروا»

بلغة مكثفة للغاية استطاع الكاتب متأملاً وجوه الأصدقاء.. يلتحم بعمق الإنسان.. كل شيء يتبدل.. وقد كفوا عن الجدل.. لا مفاخرات ولا إثبات وجهات النظر لا اختلاف ولا ندية.. والغصة محتقنة بالحناجر.. يرتعد برعدة ألمهم.. يعانق صدفة العمر في وجوههم الدفيئة ليرى في ملامحهم معالم الوطن. - هم رفاق العمر.. أصدقاؤه - وبدون أبجدية كانوا يصرخون «لا تفارق».

الأحلام تلهو في أخطاء الريح

«العشرون من آذار: حبيبتي: كلما خرجت إلى الشارع، كنت أشم بقايا عطرك.. كنت أعرف مرورك القريب، لماذا ما عدتي تتعطرين؟.. ماذا ستفعلين برسائلي؟.. أحرقيها.. وانثري رمادها على جسد العشب». وعند مقطع الحبيبة ينتقل عثمان حمو بالنص من فعل الزمن المضارع إلى الفعل الماضي ؛ فيخاطبها بكلمة (كنت)، وكريح حكت جناح عصفور يردد الأسئلة.. لا يبتغي لها جوابًا ؛ فالجواب اندلع قبل السؤال « لماذا ما عدتي تتعطرين؟.. ماذا ستفعلين برسائلي؟» لقد اختزل الكاتب ذكريات كل قصائد الحب وأحلام الطيور وترانيم الصباحات الضحوكة وعناق الأماني في سؤال واحد « ماذا ستفعلين برسائلي؟» ولا ينتظر جواب، بل يجيب عنها بلغة مضمخة بأساطير صوفية كطقوس الموت في بعض حضارات الشرق القديم كالهند «أحرقيها.. وانثري رمادها على جسد العشب « ؛ فقد تعامل مع رسائله ككيان ينبض.. يتنفس ليلفظ أنفاسه الأخيرة، له القدسية الأرفع من جسده هو ذاته... إنها أحلامه.

شاشات النظام على ضوء الأسلحة يعلن العد التنازلي «تعلن شركة الوجوم والجروح المتسلخة عن إقلاع رحلة كرنفال الموت

«الواحد والعشرين من أذار: مدينتي.. ها قد جاء النوروز ؛ فالبسي أجمل ما لديك.. أفتح عيناي إلى آخرهما.. لا سماء فوقي.. عقارب الساعة تدور أبدًا.. الشمس روزنامة الحائط.. لماذا الشهر ؟!.. أقل من ثلاثين يومًا ؟.. تختفي الأصوات.. تقترب الشمس.. تختفي الأشكال.. يبقى وجه أمي.. يرفرف كعلم ملون.. تقترب الشمس.. أنا سلم الضوء يا أمي.. أنا كريستالة الضوء الثمينة.. أنا الضوء ذاته.. يا أمي.. الضوء ذاته

وخروجًا من البؤرة الذاتية إلى الهم العام ليمتزج كلاهما اكسير الوطن

الصوت المتجول في أصداء المدى ليستريح فوق غيمة، ويضوء الحزن في بوح المطر... ينادي في عواصم الغياب.. تتحد الأم وعيد النوروز والمدينة برمزية العلم الملون.. علم كردستان يرفرف.. هو الوطن في أبهى صورة - بعث من جديد - يعبر قيود الجسد واعتقال المادة.. يصعد ثم يصعد ثم يصعد وعند أعالي المنتهى - سيد الضوء عناقيد فرح طاقة خالصة تعبئ الخروج لكرنفالات المواويل في مدن الياسمين المشتاقين لسني الفرح ومنتظرين عودة الروح لجسد الوطن.

الإسماعيلية

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة