Culture Magazine Thursday  20/09/2012 G Issue 380
فضاءات
الخميس 4 ,ذو القعدة 1433   العدد  380
 
الاحتمال الثالث
(ما فوق الثورة والمؤامرة)
ياسر حجازي

 

(أ)

يتوارى في العقل، عن العقل المدرّب على الثنائيّة، وجود احتمال ثالث يخترق حصار الجبريّة وحيرة الاختيار بين موقفين. وهو مأزق يتورّط به صاحب العقل الثنائيّ في مواجهة المواقف والأجندات السياسيّة دون أن يعلم بمأزقه داخل تفكيره، إذ تشكّل الثنائيّة -(كالخير والشر/ الصواب والخطأ وغيرها من الأضداد)- رؤية العقل الخاضع تحت تأثير غلبة الفكر الديني السياس.

وهي تأثيرات لها الغلبة اجتماعيّاً ولم يفلت منها الفكر الثقافي أيضاً؛ بحيث إنّ انتماءك مشروط على الاختيار بين شيئين، وأخلاقك تحت التقويم تبعاً لسلوك موزّع بين الأضداد.

وهذا قولهم: (إما هنا أو هناك/ وإذا لم تكن معنا، فأنت معهم دون حاجة للدليل)، فلا مجال لديهم (لاحتمال ثالث وما فوق)، فيكون الاختيار محض إجبار.

وهذا الاحتمال الثالث ليس توافقاً بين ضدّين، كما حال الناتج عن جدليّة الأضداد، بل هو احتمال منزوع من الغايات السياسيّة للمتنازعين؛ والمفارقة –سياسيّاً وفي النزاعات- أنّ كلا الطرفين المختلفين يتّفقان بإقصاء أيّ احتمال ثالث قد يشكّل طرفاً آخر.

وكلاهما ليس يقدر على مخاطر فتح جبهة مغلقة ومتوارية عن الظهور والتأثير.

فبينما قسّم أسامة بن لادن العالم إلى (فسطاطين) فإنّ بوش الابن في المقابل قام بالتقسيم ذاته: (عالم شر وعالم خير)؛ والمسألة أنّك لا تنتمي إلى هذين الفسطاطين أو العالمين اللذين قدّمهما هذان (الطوباويّان الدمويّان).

الاحتمال الثالث وما فوقه ميزة هامّة في عقليّة الفرديّة الذكيّة للانتقال من الإيحاء بالاختيار إلى فعليّة الاختيار، فمحدوديّة الخيارين قيدٌ من أعمال الفكر الديني السياسيّ ولا يمكن اختراقه إلاّ عبر الاحتمال الثالث وما فوقه كضرورة لاستقلاليّة فكريّة فرديّة.

(ب)

مرّة أخرى نعود للكتابة عن النزاع في سوريّا على أمل رؤية فوق طائفيّة أو اصطفافيّة يراد لها أن تكون هي الرؤية المتداولة الوحيدة، وعلى أثرها يستباح الدم السوري على الطرفين، وهو النزاع القابل للإطالة لاستحالة الحسم في الواقع الفعلي وفق المعطيات المتوفّرة للطرفين منذ ابتداء النزاع المسلّح- والذي يصرّ الإعلام العربيّ -الذي يريد أن يكون طرفاً (في الدم/والنزاع)- على وصفه بثورة شعبيّة سلميّة ومسلّحة، وفي المقابل يصرّ النظام السوري على توصيفه بالمؤامرة الخارجيّة، كأنّ هؤلاء المقاتلين والضبّاط جاؤوا جميعاً من الخارج وغرّرت بهم جهات خارجيّة، وهذا في حدّ ذاته مدعاة لمساءلة أيّ نظام سياسيّ عن جدوى وجوده وظائفيّاً حينما تفقد سلطته قدرة حماية حدود البلد والمواطنين من الاختراقات الأمنيّة.

ولربّما هناك شيءٌ من الواقعيّة الفعليّة في مسوّغات الرأيين المتضادّين: (الثورة والمؤامرة)، لكنّ الكثير من الضعف والتلفيق في دفوعاتهما؛ والنزاع كما نراه يتحمّل احتمالا ثالثاً له استدلالاته في الواقع الفعلي، حينما يتمّ تفكيك (الثورة والمؤامرة) ومطابقتها بما يجري في الواقع السوري.

لطالما أنّ الثورة خروجٌ جماهيريّ سلميٌّ أو مسلّحٌ لأجل استرداد الشرعيّة للشعب صاحب العقد الاجتماعي ونزعها من السلطة بوصفها مُمثِّلة للعقد بالانتخاب أو بالتراضي الحالّ بعدم الاعتراض على النظام.

وهذا حال الثورة أيضاً، إذ تخرج الجماهير وهي جزء من الشعب وليست الشعب كلّه، وتحصل على الشرعيّة بالموافقة الحالّة بالإعلان أو بعدم الاعتراض عليها.

هكذا تقوم الثورة بإعادة القوّة إلى الجماهير بوصفها ممثّل مؤقّت للشعب بديلاً عن السلطة المراد خلعها، وذلك لأجل إعادة تمثيل سياسي جديد.

أمّا المؤامرة فاتّفاقات سريّة بين أطراف نافذة في النظام وأخرى معارضة وبين جهات خارجيّة لأهداف ذات أجندة خارجيّة وليست داخليّة كأهداف الثورة، أو تكون المؤامرة في سبيل إضعاف النظام لأجل إملاءات التفاوض السياسيّ، وهذا ما يظنّه النظام السوريّ لأجل التفاوض على ما يملكه من أوراق سياسيّة في المنطقة: (حزب الله اللبنانيّ، جيوب المقاومة العراقيّة، التحالف الإيرانيّ، الفصائل الفلسطينيّة المعارضة، جبهة الجولان الآمنة).

وفي كلا التصوّريين: (الثورة أو المؤامرة) فإنّما هي وسائل تغيير اضطراريّة تظهر حين تتعطّل التداوليّة التغييريّة الطبيعيّة: (التلقائيّة، الإصلاحيّة)، وفي حال عدم وجود إصلاحات سياسيّة فإنّ افتراقاً يحدث في العقد الاجتماعيّ بين الممثَّلين/ الشعب والممثِّلين/السلطة، لأنّ التحوّلات الطارئة على أصحاب العقد تستوجب ابتعاد السلطة عن الجمود عبر إصلاحات تماثل بين الشعب وسلطته؛ فإذا لم تتحقّق الإصلاحات واستمرّ الجمود فإنّ التفاوت بين العقد الاجتماعي وممثِّليه عامل رئيس يضغط باتّجاه وسائل التغيير الاضطراريّة: (الثورات، الانقلابات، الاحتلال أيضاً).

وهذا ما حدث في (تونس، مصر، اليمن) حين تعطّلت التداوليّة التغييريّة وطالت الفترة الرئاسيّة دون إصلاحات تتلاءم مع التحوّلات من جيل إلى آخر؛ وهو الجيل الذي لم يكن طرفاً في العقد الافتراضي السابق حال نشوئه، ولم تقم السلطة بما يجدّد العقد بتحوّلات سياسيّة تناسب الممثَّلين الجدد؛ هكذا تكون الثورة تحرّكاً اضطراريّاً من أصحاب العقد الجدد لنزع التفويض السياسيّ الممنوح من قبل جيل سابق لسلطة سياسيّة متهالكة ومتقادمة بجمودها.

فإلى أيّ مدى يمكن أن نعتبر أنّ ما يجري في سوريّة يتوافق مع رؤيتنا للثورة بوصفها نزاعاً بين طرفين: هما أصحاب العقد الاجتماعي وممثّلي العقد؟!

إنّ الاصطراع الدمويّ الدائر في سوريّا هو صراع عقدين اجتماعيين -لا على المعنى المذهبي الطائفي، وإن يُراد له أن يأخذ هذا المعنى الظاهري التدميريّ- بل هو بين عقدين يتشكّلان من طوائف وتيّارات سياسيّة عدّة، وليس حصراً على طائفة وتيّار دون آخر.

فثمّة عقد شعبيّ خلع الشرعيّة عن النظام السوريّ وخرج عليه نظراً للجمود السياسيّ وغياب الإصلاحات التي قطع فيها النظام وعداً، كان سمة العقد الجديد عندما آلت الرئاسة من الأب إلى الابن.

وفي المقابل هناك عقد اجتماعيّ آخر يستمدّ النظام شرعيّته وقوّته وتمثيله منه؛ ولذلك لا يبدو النزاع بين شعب وسلطة، إنّما بين عقدين وسلطتين، لأنّ السلطة نفسها تعرّضت للانقسام كما تعرّض العقد الاجتماعي.

من هنا فإنّ الظنّ أو التأكيد على أنّ الأحداث الجارية في سوريّة تدرج في نطاق (الثورة أو المؤامرة) تؤثر في إدراك الصراع وأبعاده.

وإن كان هناك شيء من الثورة في وجهة نظر أصحابها فالواقع الظاهر أنّها تتلقّى دعماً خارجيّاً وينقصها التأييد الشعبي الكامل؛ وإن كان هناك شيء من المؤامرة في وجهة نظر النظام فهو يتلقى دعماً من أطراف خارجيّة لإخماد هذه التحرّكات، وهو لا يملك أن ينكر واقعيّاً أنّ جزءاً من الشعب خرج عليه.

من هنا لا يمكن لنا أن ننظر لما يحدث في سوريّا بعيداً عن مفهوم الحرب الأهليّة، التي لا يمكن لعاقل بعيداً عن الغائيّة السياسيّة والطائفيّة أن يتجاوز وقائعها وبراهينها؛ فكيف يتمّ تجاوز شهادات المبعوثين السياسيّين: (محمّد الدابّي، كوفي أنان، الأخضر الإبراهيميّ، قائد قوّات حفظ السلام): «أنّ تجاوزات وجرائم حرب ترتكب من قبل الطرفين، وأنّ الضرورة القصوى تنصبّ في مصلحة وقف نزيف الدم، ثمّ الدعوة للتفاوض والحوار»؛ وهو ما يلغي حالة الثورة التي تدّعيها مجالس المعارضة المتفرّقة وحالة المؤامرة التي يدّعيها النظام؛ فلا نكون إلاّ أمام حالة حرب أهليّة دمويّة عمياء، وليس هناك من أمل أن تتوقّف قريباً، وأنّ الضحايا الأبرياء من الطرفين سوف يدفعون ثمناً لا يتحمّله عقل نتيجة لهذا الجنون الجماعي الدمويّ.

* * *

** (وقفة) نبارك للأستاذة سهام القحطاني إصدار كتابها الجديد: «العرب الجدد، ثقافة ما بعد سقوط القدسيّة الأبويّة»، البحرين، فراديس للنشر والتوزيع.

جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة