لم أكد أهدأ من صدمتي التي صُدمت بها في الأسبوع الماضي في وفاة العالم اللغوي الأستاذ الدكتور - عبد العزيز التويجري حتى تجدد الجرح بمصاب آخر كان أكثر غورًا وأشد ألمًا، حينما عرفت بوفاة أستاذي ومعلمي وصاحب الفضل عليَّ في مراحل تعليمي في دار العلوم الدكتور مصطفى عراقي، رحمك الله يا أستاذي فقد كنت نموذجاً للعالِم الوفي الذي يحب طلابه ويفرح بهم ويقدرهم كثيراً لم أسمع منك يوماً كلمة تُشعرني أو تُشعر زملائي بالحرج، كنا نُخطئ فيُصوّب لنا الخطأ في رُقي وابتسامة جميلة لا تكاد تفارق محياه، كثيراً ما كنا نسمع منه داخل المحاضرات كلمة (أحسنت) وكلمة (شكراً) وكلمة (محاولة طيبة) وغيرها من الكلمات التي تُشجع الطلاب على حب العلم وتُعزز فيهم القبول عليه.
لقد درَّس لي أستاذنا الدكتور مصطفى عراقي مقررين في دار العلوم.. الأول منهما كان مقرر العروض، ودرَّسنا فيه الأبحر الصافية، والذي لفت نظري في كتابه الذي أعده لنا هو العنوان الذي اختاره لكتابه حيث عنون له ب (فن العروض ثقافة وإبداعًا) وقد نقل لنا بالفعل الثقافة الخاصة بهذا العلم بشكل غاية في الإبداع، لقد حببنا في هذا العلم رغم صعوبته الشديدة فلم نكد نشعر بصعوبته، وكان أغلبنا من الطلاب والطالبات يجيد الوزن بأذنه، ساعد الدكتور عراقي في نقل هذا المحتوى بهذه الآلية من الإبداع في تدريس العروض موهبته الشعرية، وقد كان الدكتور - رحمه الله - رائدًا لجماعة الشعر في دار العلوم.
ودرَّس لنا مقرر المنصوبات في النحو، وسمَّى كتابه (نظرات في النحو والمعنى)، وكان بحق كتاباً متميزاً وكان من منهجه ربط النحو بالدلالة على طريقة شيخه وأستاذه الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف - أمدّ الله له في العمر وبارك له فيه - فقد أشرف عليه في رسالتيه - الماجستير والدكتوراه، وكانت الماجستير بعنوان «دور النحو في تفسير النص الشعري» سنة 1988م والدكتوراه بعنوان: «المعاني النحوية للغة القصّ في القرآن الكريم» سنة 1993م، ولعلَّ الدكتور عراقي من أول الذين كتبوا في نحو النصّ في دار العلوم، واهتمامه واضح بالمعاني النحوية من عنوانيّ رسالتيه السابقتين إضافة إلى كتبه وأبحاثه التي تدور في هذا الإطار، منها:
نظرات في النحو والنصِّ، ونظرات في النحو والأسلوب، وسياق السورة القرآنية وأثره في تفسير النصّ وبيانه، والوحدة السياقية للقصيدة العربية: رؤية نحوية في تماسك النصِّ الشعري، وكان - رحمه الله - شاعرًا جيدًا صدر له العديد من الدواوين الشعرية؛ منها: ديوان النيازك، وعالم الضياء، وأنشودة أحزاني، وأذكر أنه ضمَّن كتابه العروض نماذج من ديوان النيازك، وكان يهتم شعره بتناول القضايا التي تمر بها الأمة الإسلامية والعربية، من ذلك قوله في قصيدة حروف تمشي على الجمر:
خطبت فكنت خطبا لا إماما
وجئت فما جديدك يا أوباما؟!
فما زالت جنودك في بلادي
تواصل شرها عاما فعاما
وما زالت تقاتلنا بحقد
وما زالت تشردنا انتقاما
وما زالت صديقتكم بأرضي
تواصل حربها فينا ضراما
ويقول في نهايتها:
فما جدوى الوعود إذا ترامت
ولم يضمن لها الناس التزاما؟!
فعد من حيث جئت بلا ضجيج
فلسنا نبتغي منك... الوساما
فلا الإسلام منتظرٌ دفاعا
ولا الأوطان تحتاج الكلاما
ولا الشهداء يرضيهم خطابٌ
ولا الأيتام تستجدي ابتساما
ويقول في قصيدة اختيار:
دم يشتهيك
دم تشتهيه
وبينهما الاختيار
أمام عيونك يرقص سجن.. يغني جدار
وتعبث بين خطاك..
وتلهو وراءك.. نار
تكبل أقدامك الشاردات.. رياح فتنسى الفرار
وتنسى القرار
فأين اختيارك؟
قد نشز العظم منك..
وَحَلّ بحقلك خوف
وذاب بحلقك سيف
ومات نهار!
والصحارى تُلَوّحُ:
إما الإسار
وإما الإسار
وإما دم يشتهيكَ..
لقد كان آخر حوار بيني وبين أستاذي الدكتور مصطفي عراقي مختصراً جداً، لم يكتب كثيراً من خلال المحادثة على الفيس، وإنما كانت عبارات فهمت منها الآن أنها عبارات وداع قلت له: أستاذي الغالي وحشتني والله فرد عليَّ قائلاً: بكل الخير أخي الكريم طمئني عليك، وانقطع الاتصال ساعتها فلم أرَ صورته إلا عند سماع نبأ وفاته - رحمه الله تعالى -.
رحمك الله يا أستاذي وغفر لك ورفع منزلتك وجعل جزاء ما قدمت للعلم وطلابه خيراً.
* أستاذ النحو والصرف والعروض المشارك - تبوك