في مجموعته القصصية «الجسر» يجاوز القاص أحمد العليو حكاية الزمان والمكان إلى ما سواهما من تفاصيل حميمة، ورؤى مدهشة، يكون فيها الراوي أكثر دراية وأشد حرصا على اقتفاء حساسية هذا الخطاب الإنساني المعبر، ليساوق الفكرة تلوى الأخرى بغية سرد فني لا يرتمي في أحضان الحكائية، ولا يميل إلى لغة تنهك النص وتثخنه في مقولات شتى.
قصص «الجسر» يستهلها الراوي البطل في نص رمادي أليم «ولا زالت ذكراها» إذ يعيد ألم ربع قرن في ومضة سريعة تتعاضد فيها صورة الإنسان الإحسائي مع ما سواها من حياة باتت لدى الراوي مجرد ذكريات أليمة يمتزج فيها الحزن بما سواه من معاني الفقد والحيرة حينما تتداخل سيرة المنطقة الإحساء بمشهد المرأة «منى» لتكون هذا التعالق الضمني بين عاطفة البحث عن مخرج مناسب لتلك الذكريات الأليمة. برع القاص العليو في اقتناص الفكرة وتحويرها، وضخ روح الحياة بهذه الكبسولة الصغيرة إذ حشر بعناية فائقة ربع قرن في حيز صباح سبت أقبل فيه «الإحسائي» بسحنته البسيطة من منافيه البعيدة في الوجدان والقريبة في واقع المعاناة اليومية ليتهاوى التاريخ عائداً من جديد إلى سباته وحياديته كما في تلك الرؤى التي يرسمها الكاتب بلا مواربة أو تورية أو رمزية.
القصص الأخرى في هذه المجموعة تحمل مضامين الوصف المغرق في حميميته وتفاصيل يومه على نحو قصة «عواء الجسد» حينما يشرع الراوي في رتق الفارق بين حكاية أليمة بالية، تكشف عجز البطل الراوي عن مواكبة أحلامه العريضة حتى يسقط في فخ أو مصيدة شغب الجسد لحظة البلوغ العمري لليافعين والبحث عن زواج مبكر كخلاص محتمل، إلا أنه يعجز عن فعل أي شيء، ليصبح البطل منهكاً وخائر القوى، يستسلم للمصيبة تلو الأخرى دون أن يُشْعر القارئ بأي بارقة أمل في حل ما يقيل عثار أيامه الأليمة..
تلك التي لا يحفظ منها سوى ذكريات متهالكة.
عناصر السرد في القصص إجمالاً تتشكل بوضوح لتجد في قصة «بثغر باسم» حضور الزمان والمكان ممثلا ببيئة المدرسة وزمن التحصيل التعليمي الذي لا يفرق فيه بين فقير وغني كبير وصغير لتأتي صورة المكان وسور المدرسة على وجه التحديد محفزة على تقبل عالم الوحدة والذاهب وحيدا إلى المجهول الذي ينتظر طفل في الزمان القادم أن ينحرف أو يبحث عن من يغريه أو يعبث بطفولته ويستغل حاجته على نحو لحظة التنوير في القصة التي سجل فيها الطفل هزيمته المنكرة حتى طغت هذه الهزيمة على كل شيء في حياته.
قصة «الجسر» التي حملت اسم المجموعة سجل العليو حضوراً إبداعياً لافتاً حينما حبك بكل مهارة وإتقان حالة النص القصصي المتكامل في عناصره وبات نص «الجسر» هو بيت النصوص وعمادها الذي حمل اسم المجموعة بكل براعة سردية وإتقان جمالي للصورة الإنسانية المعبرة عن سلوك الناس في لحظات كلحظة البطل الزوج مع امرأته في حفل عرس جعله لحظة لقاء ومفارقة مدهشة. فعناصر القصة مكتملة في هذا النص فالزمان جاء مقنناً جداً وفي لحظة رقص لا تتعدى دقائق معدودة، والمكان جسر قاعة الفرح الذي يسير عليه الضيوف حينما يسعون إلى العروسين للتهاني ومشاركتهم الفرحة أو حتى ادعاء الحبور والسعادة والتظاهر بمظاهر خادعة..
فالمكان جاء بالفعل محدد المعالم وناجز التفاصيل وكاشفاً للبعد التأثيري لفكرة النص الجميلة.
أمر آخر يذكر في إيجابيات هذه المجموعة وعناصرها المتكاملة هي لغة النصوص غير المتكلفة، حيث تحمل دلالات الوعي بما يريد أن يقوله الراوي / البطل باختصار غير مخل، فكان للكاتب العليو ما أراده حينما استشعر ثنائية العلاقة بين الرجل والمرأة ليعمل في سياق هذه الرؤى الجمالية التي تزيد من ثبات النص وقدرته على التقاط المفارقة المهمة في حياتنا على نحو تفاصيل قصة «عزلة صبي» حينما يستكشف البطل المنفصل عن الراوي الذي تقمصه الكاتب عوالم الطفل الشارد في فناء المدرسة كظاهرة نادرة الحدوث تنبئ عن حالة فقد أليم يعيشها الطفل في سني الحياة البكر.
تعد هذه النصوص في مجموعة «الجسر» للعليو من نوعية النصوص الاجتماعية التي تعالج الفراغ المعنوي والتباعد الروحي في الكثير من الصور الإنسانية الحديثة حيث استطاع الكاتب تسجيلها ومعالجة البعض منها بحلول ممكنة على نحو قصة «الجسر» آنفة الذكر.
* * *
إشارة:
الجسر قصص قصيرة
أحمد العليو
أدبي المنطقة الشرقية (ط 1) 1431هـ
تقع المجموعة في نحو 142صفحة من القطع المتوسط.