Culture Magazine Thursday  15/03/2012 G Issue 367
فضاءات
الخميس 22 ,ربيع الآخر 1433   العدد  367
 
حَجْبنَةُ الكِتَابْ
تجفيف مصادر العقل
ياسر حجازي

 

(1)

(أ) حجبنة الخيل يُمْنَى ويُسْرَى عينيه حجباً إعمائيّاً للجانبين، عمليةٌ ذات دلالةٍ ثنائيّة الوظائف؛ إحداها: (التأطيريّة) بإلزام الخيل مساراً مُحدّداً، والأخرى: (المحظوريّة) بمنع طرفيه من الاطلاع جانباً، فما يدري شيئاً عن القارعتين وما يحدث فيهما؛ ولأنّ التلفّت من طبيعة الكائن حيطةً وفضولاً وبحثاً، فإنّ الحجبنة تُعطّلها، فإلى أيّ مدى تتأثّر طبيعته كلّها بتشويه جزء منها؟! هل حُظِرَتْ الطريق على الخيل؟ الحقّ أنّ الخيل قد عبرت الطريق كلّها، لكنّها لم تر إلّا ما أُذِنَ لها وفق التأطيريّة والمحظوريّة.

(ب) هل إسقاط الدورين (الخيّال والخيل) على السلطة والمجتمع يكشف عن آثام أم فوائد؟ فلئن كان الخيّال مسؤولاً عن سلامة الخيل ممّا قد يُهدّدهَا من الجهتين المفتوحتين والمجهولتين، فإلى أي مدى تقدر السلطة بمفردها حماية مجتمع محجوب العقل والفكر.

(ج) صناعة الفُوبيَا والتابو(الذعر/المحرّم): إِيْهامُ الإنسان بنظرية المؤامرة، وبمخاطر عدوٍّ خارجيّ، وآخر داخليّ لا يُرى؛ تماهي الأولويّات والضرورات، التقوقع، كلّ ذلك يُفضي إلى تطرّفٍ وعُزلة معرفيّة تغذّيها الحجبنة.

(2)

ولئن هي (الثقافة) أداة أهليّة للرؤية التي تبني المواقف المؤثّرة، فإنّ (الحجبنة) أداة سلطةٍ لمحاصرة أيّ رؤية خارج التأطيريّة والمحظوريّة، لأهدافٍ سياسيّة، اقتصاديّة، اجتماعيّة، تربويّة. كما أنّ نفوذ الحجبنة وشيوع تأثيراتها في تربية العقل معرفياً وقانونيّاً وتجفيف مصادره، يعتمد على قابليّة العقل نفسه ومدى استعداده للمعاني القيوديّة المُودعة؛ فالعقل ذو طبيعة ثنائيّة تضادّيّة، يُمكن لها أن تُنتج قدرة على اعتقال جوهر الإنسان (حجبنة)، أو تُنتج قدرة على تحرير ذاك الجوهر (ثقافة). ولئن كان التأمّل والتدبّر من مصادر العقل الذاتي، والتعليم والإعلام من مصادره الخارجيّة، فإنّ أعمال الحجبنة السلطويّة تقع ضمن نطاق المصادر الخارجيّة، وما يتفرّع منها: إمّا لإضعاف كفاءة المصادر الذاتيّة، أو لإخضاعها ضمن سياق التربيّة والتأهيل بما يتماشى مع الخصوصيّات العامّة للمجتمع والأعراف والديانة، ومع مراعاة الظروف الشخصيّة الخاصّة؛ كالعمر والقدرة والفهم والحاجة والملاءمة؛ بينما تقوم «مصادر العقل الذاتي» المتمثّلة (بالذاكرة، التأمّل، التفكيك، الربط) بمنح العقل قدرة على إزاحة الأوهام وغبارها، تمهيداً لرؤية تتجاوز سواتر الحجبنة.

من هنا نجد أنّ وسائل وأشكال الحجبنة (السالبة) تتخطّى مفهوم الحظر العيني، إلى الحظر الذهني والتجهيل: كمحدوديّة التعليم وهيمنة الإعلام/ والتعمية: كالطعن في قيم النسبيّة والظنّية وإعلاء قيمة الثبوتيّة والقطعيّة/الاستكانة: كتوثين الإجابات ووأد الأسئلة/ التشويه: التركيز على سمعة الأشخاص المختلفين والمخالفين/ التأثيمُ: تجريم المخالف والمختلف/ ندرةُ المتاح: محدوديّة المصادر التعدّديّة إن وجدت.

أمّا الحجبنة (الموجبة) فإنّ من أشكالها: إلزاميّة القانون واحترامه، ضرورة التربية والتعليم، الأخلاق؛ ذلك أن مفهوم الضمير المحتجب هو من اختلاقات الحجبنة التربويّة، فقيمة الأخلاق لا تنبع من قوّة القوانين الرادعة فحسب، إنّما ممّا تحمله هذه الأخلاق من قيم جماليّة وفقا لتفسيرات التربيّة.

وكلّ هذه الأشكال، ليس بالضرورة أنْ تتجمّع دائماً في سلطة واحدة: (عائلة، قبيلة، حزب، تيّار، حكومة) إنّما تتفاوت تبعاً لمستويات انفتاح السلطة على شعبها، ومدى وعي الشعب، فليس هناك من مجتمع أو سلطة متخلّصة من الحجبنة (الموجبة والسالبة)، فما يمكن إقامة القوانين دون الحجبنة، فهي الرادع لأطماع العقل في مفاهيم الحريّة والمِلْكيّة والعنصريّة، والضامن لتقليص انتقال تلك الأطماع من حيّز العقل إلى حيّز الواقع.

فكلّما تطوّر المجتمع والدولة -معرفيّاً وحقوقياً ومدنيّاً- تناقصت الوسائل (السالبة) من الحجبنة، وازدادت (الموجبة): كحجب العنصرية، والتمييز الجنسي والعرقي، الاحتكار، ومسائل أخرى تسعى المدنيّة اليوم بمحاصرتها وعلاجها، وفق دراسات وأبحاث لا وفق أهواء شخصيّة للممثّلي السلطة.

**

على ضوء ما تقدّم، فإنّ الحجبنة هي: «تجفيف مصادر العقل وتحجيم أعماله»؛ وهي في وسائلها تتعدّى المحظوريّة إلى: الجبريّة، التأطيريّة، التَعْمِيَة، الوصاية.

وهي تعمل في نطاقين، (خارجيّاً) من جهة نافذة مؤثّرة على جهة واقعة تحت نطاق التأثير، و(داخليّاً) أيْ من داخل النطاق نفسه وفق الالتباس الناجم عن الأحكام الجاهزة والثبوتيّات وما يظنّها العقل واهماً بالقطعيات والبديهيّات. فالحجبنة الداخليّة ليست رأسيّة إنّما أفقيّة، يمارسها المرء على نفسه ومحيطه، وهي أيضا على نقيضين، (إيجابيّة) بممارساتها التلقائيّة لقيم الأخلاق والجماعة، والالتزام بما اتفق على صلاحه؛ أمّا (السلبيّة) فتُفرغ الإنسان من جوهره وتحوّله إلى آل ة؛ وهي (لعنة) تُعاني منها الرأسمالية الصناعيّة كما تعاني منها الدول الاستهلاكيّة التابعة؛ فالحجبنة ليست بمنأى عن العالم الغربي الديمقراطي.

هكذا يكون المرء بين حاجبين: خارجي/سلطة، وداخلي/عقله المحجوب. ولعلّ الحجب الخارجيّ يؤثّر على إنسانيّته ويستبدّ بها إلاّ أنها تَعِي ما يقع عليها، وتقاوم للحفاظ على جوهرها؛ أمّا إذا تَمكّنت الحجبنة من المرء فإنّه يُمارس أفعالها بالإنابة ولا يَعِيْ خسرانه لجوهره، حينها يغدو المجتمع مشلولاً غير قادر على الإنتاج والإبداع، الذي يحتاج إلى اكتشاف الإنسان لجوهره.

فإلى أيّ مدى يبتعد المرء عن إنسانيّته ويدنو من الآلة حين يمارس فعل الحجبنة (السالبة) على نفسه؟ وإذا كانت عمارة الأرض: فلاحةً وصناعةً تقوم أساساً على نوع من الحجبنة (الموجبة)، فكيف يمكن التخلّص من آثارها السلبيّة والمحافظة على ضروراتها الإنتاجيّة؟

**

هل الحجبنة نقيض الثقافة؟ وهل الحجبنة عماء والثقافة بصيرة؟ بحيث أنّ من مهام الأولى: تعمية الإنسان وتحويله إلى فرد تابعٍ ضمن جماعة أو تحويله إلى آلَةٍ. ومن مهام الثانية: تبصرة الإنسان وتحرير جوهره؛ بحيث قدرة الثقافة على محاصرة السلبيّات وتقليصها، وهذا ما يتّضح في العالم المتعلّم أكثر من العالم المتأخّر: فالعلم والثقافة لا تلغيان الحجبنة ولكنّهما تسعيان للحدّ من آثامها لمصلحة الاستفادة من فوائدها.

**

غاية كلّ سلطة وفي كلّ عصر الحدّ من قدرات العقل اللامحدودة، ليس من منطلق استبدادي محض، بل من منطلق أن الإنسان لا ينتمي إلى الفردانيّة بل هو جزء من نظام جماعيّ، وكلّ نظامٍ جماعيّ يحملُ شيئاً من الاستبداد، إذّاك لا يمكن للمرء إلاّ أن (يتحجبن) حتّى ينتمي إلى هذه الجماعة أو تلك؛ لكنّ المخاطر أنّ السلطات يتماهى عليها الأمر أو أنّ موازينها وغاياتها تحدّ من قدرات العقل حتّى غيبوته وفقدان مَلَكَة التأمّل وقُدْرَتَي التفكيك والربط، فتصبح من أهداف السلطة تماهي الحقائق النسبيّة بالبديهيّات، وتماهي الثقافة المزوّرة بالثقافة المنوّرة؛ وإشغال المفكّرين بمزاعم ومشاكل حياتيّة يوميّة، فتحلّ الإجابة محلّ السؤال، واليقين محلّ الشك، والسكينة الخانعة محلّ القلق المبدع، هكذا تتضاءل فُرص تحرّر الجوهر وتتفاقم القوقعة المنغلقة؛ فالقيود في الإجابات والحريّة في الأسئلة.

فكلّ زَعْمٍ يُماهي بين وجودك واستقلال جوهرك وبين أوهام تثقل كاهلك لأجل العيش اليوميّ هو زعْمٌ في مصلحة الحجبنة (السالبة)؛ فالشكُّ ضرورة بوجه كلّ فكرٍ يأسِرُ أتباعه ولا يُحرّر رؤيتهم للأشياء، فما من عقلٍ معصومٍ عن أعمال الحجبنة، وحسب العقل الواعي أن يتخلّص منها قدر ما أمكن، وأن يُلقي الأسئلة القادرة على صدّ الحجبنة الخارجيّة والداخليّة معاً. فما يُرتجى تطويراً ونفعاً من أيّ فكرٍ يُعلي من شأن التلقينات على قيمة البحث القادر على تحرير جوهر الإنسان في فكره وعقله؛ فمَن المستفيدُ، ومَن المتضرّرُ مِن حجبنة الفكر وتجفيف مصادر العقل؟!

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة