Culture Magazine Thursday  15/03/2012 G Issue 367
فضاءات
الخميس 22 ,ربيع الآخر 1433   العدد  367
 
الشبر الأخير
قاسم حول

 

مرغماً أتابع الأحداث السياسية والساخنة في المنطقة وكأني لا أريد أن أكون ضمن هذا العالم. ويبدو لي وكأن الناس غير الناس. بشر جاءوا لنا على حين غرة من كواكب ليست مأهولة بالسكان! وصراحة صرت لا أشاهد يوميا من القنوات الفضائية سوى بضع دقائق، ليس حباً في معرفة ما يدور في أوطاني، بل هو نوع من معرفة الطرق السالكة في أسفاري إلى هذا البلد أو ذاك. ولعل أكثر ما يستفزني في تلك القنوات الفضائية هو الصراخ والتحريض الذي يعبر بالضرورة عن اللاموضوعية. لأن الموضوعية تقتضي الهدوء. والصراخ لا يعبر عن قناعة صاحبه شخصا كان، قناة فضائية، مذيعاً أو مقدماً للبرامج.

الأخبار التي تبثها تلك القنوات الفضائية أسمعها أيضا من فضائيات الغرب. والغرب هو صاحب المصلحة في الشرق أكثر من الشرق نفسه في بحثه عن مصالحه. ومع ذلك فهم يتسمون بالهدوء في صياغة الخبر وفي تقديمه لنا. لذا نفضل مشاهدتهم ومعرفة ما يدور وما يريدون.

بعض القنوات الفضائية الغربية لها قنوات ناطقة بالعربية وهي محكومة بشروط البث المتسم بالهدوء لأنه شرط من شروط الملكية.

الصراخ العربي ليس وليد اليوم ونحن كما قيل عنا « أمة صوتية».

راقبو خطب القادة العرب وتأكدوا من نبرة الصوت وطريقة الإنفعال، واليوم يأتينا مقدمو البرامج ليصرخوا هم أيضاً في بيوتنا مثلهم مثل القادة العرب. وقد إتفقنا نحن في العائلة وبالإجماع وليس بالأغلبية المطلقة ألا نشاهد هذه الفضائيات وبشكل خاص في فترة وجبات الطعام حيث مشاهدة القناة التلفزيونية خط أحمر أثناء الأكل.

دعونا نراقب القنوات الفضائية داخل كادر التلفزيون فيما يسمى المناطق الساخنة ونشاهد أولئك الذين يحملون السلاح بغض النظر عن كونهم من السلطة أو خارجها فسوف نشاهد الصراخ أيضا ومرفق بزخات الرصاص في الهواء ويقف إلى جانب المدافع والقاذفات شباب شدوا رؤوسهم بشرائط حمراء شبيهة بثوار أمريكا اللاتينية.

يوماً كنت مضطراً لتصوير خطبة لزعيم فلسطيني في مخيم تل الزعتر الذي كان محاصراً. وصراحة كانت رحلتي من بيروت نحو المخيم الفلسطيني محفوفة بكثير من المخاطر وأنا أحمل معدات التصوير وعلي إجتياز حواجز الكتائب اللبنانية. وكل الذي كان الزعيم الفلسطيني يريدني أن أوثقه ويرسل لوكالات الأنباء المرئية هو قوله مراراً وتكراراً بعد كل مقطع من الخطاب الحماسي الطويل. «إننا سوف نحرر فلسطين حتى آخر شبر منها» ويعني بذلك رفض تسويات مؤتمر جنيف في حينه. وعندما انتهى الزعيم الفلسطيني من الخطاب دعاني وفريق التصوير لتناول وجبة الغداء في المخيم المحاصر. ولم يكن في ذهني أي طعام سوى النجاح بالعودة سالماً ً إلى بيروت. قررت تلك اللحظة أن أصارح الزعيم الفلسطيني. قلت له أيها الرفيق أن الموضوعية تستدعي الهدوء وأني أراك متحمساً وبصوت عال عندما تذكر تحرير فلسطين وحتى آخر شبر منها. رجوته ألا يعيد هذا المقطع في خطاباته القادمة لأنه قد يضيع فلسطين كاملة بسبب هذا الشبر. سالني لماذا قلت له لو تمكنت من تحرير فلسطين أترك لي الشبر الأخير وأنا كفيل بتحريره!

لم يمر سوى أسبوع واحد على خطاب القائد الفلسطيني الحماسي حتى أبيد المخيم الفلسطيني كاملا!

وبذلك ضيعنا المخيم الفلسطيني كاملا من أجل تحرير الشبر الأخير من فلسطين صوتياً!

وها نحن اليوم نضيع الأوطان المحتلة من أجل تحرير الشبر الأخير منها صوتياً!

نضيع الأوطان بسبب فقدان الحقيقة الموضوعية ضمن دوي الصراخ ودوي المدافع!

السؤال الموجه اليوم للفضائيات العربية، لماذا لا نصيغ الخبر ونقرأه بموضوعية وهدوء حتى يصبح الخبر قابلاً للإستقبال ومبعثاً على القناعة والمصداقية. لماذا لا نكشف الحقائق الموضوعية بالهدوء؟! اليس الصراخ والتدخل بطريقة الأداء في الحدث الخبري هو نوع من الشك يلقى على طبيعة الحدث فيحيله إلى خبر غير قابل للتصديق. فالحقائق تضيع حتماً مع الصراخ والحق أيضاً يضيع مع الصراخ، بل والقنوات الفضائية باتت تنتج الصداع في رؤوسنا وتبعث الكراهية فينا نحو واقع نحن أهله شئنا أم أبينا، عشنا في أوطننا أو خارجها.

هي دعوة لمالكي الفضائيات ولمن يقف وراءها ولمن يجلس في داخلها أن تكتبوا نشرة الأخبار بلغة هادئة وأن تقرأوها بطريقة هادئة وأن لا تكثروا من الإنشاء فخير الكلام ما قل ودل. وقدموا لنا هذا الكلام بهدوء رجاء فالأصوات العالية هي التي تجعل أصوات المدافع عالية وتجعل الظالم محقاً! بالهدوء وحده يمكننا كشف الحقيقة الموضوعية التي تؤدي إلى تحرير كامل التراب، ولو بقي الشبر الأخير منه فأنا كفيل بتحريره!

سينمائي عراقي مقيم في هولندا sununu@ziggo.nl هولندا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة