استكمالا للموضوع السابق حول الحداثة في الفنون التشكيلية، واعتبار دوشامب مؤسسها ورائدها بخروجه عن المألوف في الفنون إلى فنون الفكرة الغير متحفية الموصوفة بالوقتية، التي يتعامل المتلقي معها وقت عرضها، وتنتهي بنهاية العرض إلى حاويات الزبالة، ولا شك أن لكل زمان محدثين ومطورين كل في مجاله، ومن بينها الفنون البصرية على اختلاف تنوعها وسبل التعبير فيها، وتأتي الفنون التشكيلية بكل روافدها أحد تلك المجالات الإنسانية، وقد مر بها ما مر بغيرها من تحرك وتبدل وأحيانا خروج عن القيم والتقاليد (الفنية)المعتادة فيها والتي جبل عليها المبدعون على مر العصور السابقة، ابتداء من القرن الثاني عشر التي كانت الفنون فيها تعنى بكل ما هو نفعي، تسير جنبا إلى جنب مع المشغولات إن كانت نسيجا، أو أواني وحتى الأسلحة، مما يستخدمه الإنسان ويتعلق بحاجاته اليومية مرورا بعصر النهضة التي تغير فيها وضع ومكانة تلك الفنون بما فتح للمبدعين من سبل جديدة ذات ارتباط بالحياة، والعادات، والتقاليد والمظاهر الاجتماعية بأسلوب أكاديمي تسجيلي، حيث وصلت فيها تلك الفنون إلى ذروة الإبداع والاهتمام والمنافسة في إظهار أدق التفاصيل خصوصا الصور الشخصية..
***
كان لكل فنان حسب بيئته شكل وقدرات تختلف عن الآخر، في كيفية نقل لواقع الثابت كالطبيعة، أو المتحرك كالإنسان وغيره من مظاهر التنافس في نوعية الملبس أو ما يضاف إلى القصور والمساكن للطبقات الثرية من إكسسوارات كالستائر أو قطع التحف وخلافها ، مع ما يبرزه الفنانون في تلك الفترة من اهتمام بما يهتم به عالية القوم في زمنهم من رسم لمظاهر الهوايات كسباقات الخيل ورسم الأحصنة والفرسان.. الخ.
هذه المرحلة الهامة في تاريخ الفنون تعد نقلة لم يكن يعيرها المجتمع في ذلك الوقت أي اهتمام لعدم ملامستها للجوانب النفعية في حياتهم واعتبارها مظهر من مظاهر الترف، دون علمهم أنها أصبحت رمزا مهما من رموز عصر النهضة وأصبح الكثير من فناني ذلك العصر حديث كل العصور وأحد شواهدها، نذكر منهم الفنانين الإيطالي (ليوناردو دافنشي) والهولندي (رامبرانت).
سيونامي الحداثة وردود الفعل
تحدث الباحث (مارك جيمنز) في كتابه الجمالية المعاصرة.. لاتجاهات والرهانات (ترجمة د كمال أبو منير)،عن جوانب مهمة جدا، طرحها في كتاب من القطع الصغير،عبر العديد من لتساؤلات أو الأسئلة، مجيبا عل كل منها بشكل مختصر ومعمق، مشيرا في كتابه عن اهتمام الفلاسفة في الغرب بالأفكار المتعلقة بالجميل، والانسجام، والكمال، ابتداء من عصر أفلاطون الذي طور مثله العليا (الحق الخير الجمال)، مؤكدا على الدور التربوي للفنون كالموسيقى والرسم والشعر والمسرح، وصولا إلى نظرية أرسطو والتي اعتبرت ذات طابع جمالي لتتحقق التسمية الجديدة (الجمالية) وما تبع ذلك من تفسير لها كما أشار (غوتيه بومغارتن) أستاذ الفلسفة في مدينة فرانكفورت عام1763م، قائلا إن الجمالية هي علم نمط المعرفة والعرض الحسي لنصل معا إلى ما تحقق من أنسنة الفنون وتوثيق صفة الجمالية (بفن جمال التفكير).
هذه النظريات وما تبعها من تجارب ومحاولات منها المدروس ومنها الآتي من المغامرة أو التلقائية، ومنها المعتمد على فكرة، ومنها ما يستفز ويثير التساؤل، ليحصل على إجابة أو عنوان للعمل، وصولا إلى ما يطلق عليه المفاهيمية مرورا بـ(المستقبلية) التي انطلقت عام 1909 في الفن والآداب حركة ترفض الماضي الفني، اعتمادا على مبدأ فني يقوم على ديناميكية الآلة، الحركة والسرعة،وإلى الـ(الموضوعية جديدة) مصطلح برز في أعمال رسامين ألمان سنة (1920) من فناني الغرافيك وغيرهم قدموا أعمالاً من جانب ساخر.
الخلاصة
نخلص إلى أن الفن المفاهيمي نشأ في الغرب بعد أن ضاق الفنانون من رتابة الأفكار التقليدية التي مدت ظلالها على الفنون على مدى مراحل وطويلة من التاريخ فاستمدت الحركة الجديدة روحها من الدادائية الجديدة مطلع القرن العشرين في أوروبا أو أميركا، وذاع صيتها لتصبح حركة عالمية، اتكأت الحركة وقامت على فكرة، إن الفن يقوم أساساً على فكرة الفنان باستخدام مختلف الوسيط الذي يراها مناسبا للتعبير عن فكرته مهما كانت نوعية تلك الخامات أو تقييد بالشروط الفنية والأسس التقليدية المألوفة خارجا بها من حدود السلعة أو العمل المتاح للبيع والاتجار بتهميشه في كثير من الأحيان جانب الجمال المعتاد إلى الاشتغال على قضايا الإنسان وهمومه الفردية والجماعية.
سهولة التنفيذ ومساحة المغامرة
هذا التوجه المفتوح والباعث للخوض في التجربة الإبداعية والدخول في عالم المغامرة، لم يعد حكرا على من يمتلك المواهب أو يتلقى دروسا وعلوما في مجال الفنون ويتعامل أو يتقيد بقيمها ومقومات بناء العمل من خلالها، فقد أصبحت الفنون المفاهيمية أو المتحررة من تكل الأسس أو القيم مجالا للجميع،، حينما يلعب الخيال في وجدان الفرد ويحيل الفكرة إلى مرحلة التنفيذ ثم إلى أرض الواقع، عودا إلى إحساس بالحاجة للتعبير عن أمر ما أو موقف مع ما يمتلكه من قدرات في التنفيذ أو التوجيه، فكثيرا من تلك الأعمال اعتمد فيها على تنفيذ صناعي من قبل حرفيين بناء على فكرة تم تصميمها أو وصفها للمنفذ من قبل صاحب الفكرة، ويحضرني هنا موقف لأحد التشكيليين العرب ممن ينتهجون المفاهيمية عندما قال له أحد الزوار إن ما قام به من عرض لمخلفات صناعية، شيء من الجنون، ولا قيمة له، وأشار للفنان بأنه لا يمكن أن يوصف بالفنان وأضاف أنه إذا كان هذا فنا، فسأحضر لك مجموعة من الجزم وأعلقها في المعرض، فأجابه الفنان بسؤال ووعد أنه لو فعل ذلك لاعترف به ودعمه إعلاميا واعتبره فنان، هنا تبرز أهمية المغامرة في طرح الفكرة من خلال وسائط تتجاوز عقل أو مستوى قبول الجمهور لها بالخروج عن النص التشكيلي المتعارف عليه، كما تم في أحد المعارض العالمية من عرض لمخلفات آدمية..