و»الرجاجيل» في الجوف، اسم ذو دلالة وعراقة لمعلمٍ أثري جنوب سكاكا يعود تاريخه إلى الألف الرابع قبل الميلاد، يعرفه المواطنون والمهتمّون بالدراسات التاريخية، ولا أحسب اليوم إلا أننا نتحدّث عن رجل فيه بعض من سمات ذلك الأثر من الأصالة والتاريخ والشموخ. والليلة يستميحكم محدثكم العذر لاستعادة ما قاله مرّة، من أن اقترابه من هذه المنطقة لأول مرّة لحضور مهرجان الجوف عام 1996م، مروراً بالإسهام الثقافي في نشاطها، قد أكسبه كنزاً ثريّاً من الصداقات والمعارف لا تمّحي من الذاكرة، صداقات تخلو من الرسميّات والمنافع وتستقر على أديم المحبة والبساطة والاحترام، ومعارف لا تقاس بثمن أو بأوزان. والجوف، وقبل أن تكون مخزن الآثار والتراث والفنون، والدّحة والسامري والحلوة والزيتون، هي بلد الجغرافيا والتاريخ والإنسان، بلد المعاني والفضائل والمكارم والأداب، الرابط بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، والطبيعة والجمال، لا يكون التفكير يوماً بالجوف وكرم أهلها وسجاياهم إلا وتتبيّن معالم « عارف «، ولا يُذكر اسم « عارف « يوماً إلا وتظهر صورته مقرونة بالجوف، بهوائها وسمائها ونجومها، وبتضاريس الماء والخضرة والرمال فيها. كان « عارف « وإخوة معه من الجوف بالنسبة لكاتب هذه السطور صورة مصغٌرة من عروبة الوادي والسهول والنفود، وشمائل القبيلة والحاضرة وأمجادهما، كانوا لي نعم المستشارين والمراجع، والعون والسداد، والمفردات والجُمل، على أيديهم يعرف الباحث كل ما يودّ معرفته عن المنطقة وأهلها، وكل ما ينقله إلى الآخرين من خارجها مما يودون الاطلاع عليه عنها، يصير الباحث بفضلهم ملمّا بالقدر الضروري من العلم عن الركن الشمالي الغربي من بلادنا، وما أجمل أن يُرزق الكاتب بمراجع أوليّة بمثل كفاياتهم، بعد أن يكون قد تجاوز نصف عمره وهو الغافل عن أجزاء مهمة من وطنه، ويعرف عن بلاد الغال أكثر مما يعرف عن بلاده. كان محدٌثكم بين عامي 2005 و2007 م على موعد مع الجوف، عندما خطّ القلم أول رابط جمع برجال القلم فيها، كتاباً يروي سيرة واحد من أمرائها، ومنذ ذلك التاريخ لا يكاد يمرّ عام دون أن يضعه الحظ على خط الالتقاء مع صالوناتها وأنديتها ومهرجاناتها، وما كان يدري أن تلك التجربة - تحرير الكتاب - ستضعه وجهاً لوجه مع رموز الفكر عندهم من المربّين والمثقّفين والشعراء والأعيان، وكان عارف من بينهم، الوجهَ المضيءَ الهادئَ، ذا التجربة والحنكة والمثارة والمصابرة والوطنية، والسجلّ النظيف في حياته ومنطقه وإدارته، ومن خلال مشاركته تلك، تعرّفت - عن قرب - على أبي عبدالسلام، وعلى كفايته الفكريّة والتأليفية، وخصاله الرفيعة وخلقه الكريم. تضافرت من أجل سيرة الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري الذي تآخى مع المنطقة وأهلها قرابة نصف قرن (1362 - 1410 هجرية / 1943 - 1990ميلادية)، جهود تسعة من مثقّفي المنطقة وثمانية من خارجها للمشاركة في التأليف، لم تكن صفحاته مقتصرةً على حياته الشخصية بقدر ما كانت قراءةً في تاريخ وطن وفصلاً في سيرة رجال، روت صفحاته حال المنطقة في تلك الحقبة، وقابل المشاركون فيه عدداً من رموزها من كبار السن ومثقّفيها ومن العارفين بتاريخها وتطوّرها، وكان عارف أحدَ تلك الأقلام التي شاركت في إعداد فصول الكتاب، أما الإشراف على تحريره فكان بالنسبة لمحدّثكم فاتحةَ الدخول إلى عالم من الحب المتبادل بينه وبين الأهل هنا، وحجز له مقعداً دائماً في مجالسهم، وعضويّةً عاملةً في مجتمعهم، وما حضوري اليوم إلا تعبير عمّا يربطني بأسرة الجوف من علائق متبادلة متعدّدة، ما كان للبال معها أن يخطر عليه الاعتذار عن هذه المشاركة، وما كنت مع تأبين عارف لأندسّ في مشاركة عابرة على هامش مناسبة أخرى، فعارف أهلٌ لمناسبة خاصة تليق بمكانته، وجديرٌ بندوة تعقد من أجله، وأن يكون الحضور له لذاته لا من أجل أحد غيره، خاصةً وقد حرمتني الظروف من زيارته في منزله هنا في سكاكا، أو من حضور ندواته المفتوحة في صالونه الثقافي، أو من استقباله - قبل عامين - وعيادته في الرياض، عند محاولة نقله في طائرة الإخلاء في اللحظات الأخيرة من حياته، فأعادته متوفّياً إلى الجوف. تحدّث عارف في مشاركته المستنيرة في كتاب عبدالرحمن السديري، بفصل عن تطوّر التعليم في منطقة الجوف، وهو العارف الخبير بهذا الشأن، خاصةً وقد كان في فترة من الفترات مديراً عاماً للتعليم فيها، ورافق كثيراً من أموره، مذكّراً بالأولويّات والمبادرات المبكّرة للتعليم، وعلى الأخص ما يتعلّق بأسبقيّة تعليم الفتاة، والبعثات الأولى، وبإنشاء نواة للتعليم الأهلي للمرأة، وبتأسيس مكتبات للجنسين، وبالاهتمام بإدخال التعليم المتخصص، وباستقلالية مديرية التعليم بالجوف بفصلها عن إدارة التعليم في المنطقة الشرقية حيث كانت تتبع في بداياتها، ويشاء الله أن يتزامن تأسيس الجامعة في ذلك العام (2007) الذي كتب فيه ذلك الفصل عن التعليم فيلجوف، ليشهد عارف اكتمال عقد التعليم الجامعي بعدد كبير من الكليات متنوّعة التخصّصات للبنين والبنات والتقنية في هذه المنطقة، قبل أن يفارق الدنيا. والحديث عن أمور التعليم في الجوف، يقود إلى العلاقة التي تربط بين عارف وجوانب التنمية الشاملة في المنطقة، بتولّيه مسؤولية أمانة مجلس المنطقة، وبإسهامه، في الوقت نفسه، إسهاماً ذاتيّاً في مجال التنمية الثقافية على وجه الخصوص، بتأسيس دار معارف العصر للنشر والتوزيع، وبتحويل دارته إلى منتدى ثقافيّ دوري رائد عُرف باسمه، تطرح من خلاله قضايا الحياة الاجتماعية والثقافية وشؤونها وكل ما يهم المجتمع من هموم وأمور، وبمشاركته الفاعلة في النشاط الثقافي الذي تصنعه مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، التي مضى على تأسيسها أكثر من نصف قرن، وخصّت التعليم والتنمية الثقافية وخدمة المجتمع بأبرز اهتماماتها. لقد كان أولَ ما قرأه محدثكم عن الجوف كتابٌ وثائقيٌّ متعدّد الطبعات خطّه عارف أول مرّة سنة 1408 هجرية (1988م)، في إطار جهود رعاية الشباب للتعريف بمدن المملكة وقراها، وما كان تكليف عارف بهذه المهمة إلا دلالة معبّرة على ما يتميّز به من معرفة واطلاع على جغرافيّتها وعلى تاريخها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلى شواهد تطوّرها، وتركيبتها السكانية، فكان اختياره موفّقاً وسديداً، وبقي الكتاب مرجعاً أوّلياً للباحثين عن معلومات أساسيّة عن الجوف ومجتمعها، ومعالم النهضة فيها، فضلاً عن روابطها مع جيرانها. قبل وفاة عارف بعامين، تحقّقت على يديه أمنيةٌ طالما ترقّبها كثيرون، وهي كتابة سيرة ذي الصيت العطر الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك، الذي ترك في أهل الجوف أثراً لا يُنسى، عندما قدِم من مسقط رأسه في حريملاء (شمال غرب الرياض) ومن أعماله الأخرى إلى الجوف في عام 1362 هجرية (1942م) لتولّي القضاء متزامناً مع تعيين الأمير عبدالرحمن السديري، ليبقى فيها نحو أربعة عشر عاماً حتى أذن الله برحيله إلى الدار الأخيرة. الشيخ المبارك، كان من أبرز مشايخ هذه البلاد في أواسط القرن الماضي، المعروفين بورعهم وانصرافهم للعلم والقضاء، وكان عارف ممن درس على يديهم، والعين لا تخطئ معلماً جميلاً يحمل اسمه في وسط مدينة سكاكا، أُقيم على أنقاض مسجده الأثري، وقد أصدر عارف كتابه عن سيرة الشيخ بعنوان : فيصل المبارك ؛ مدرسة ذات منهج، من مئتي صفحة، كان مفاجأة سارة لكل من عرف الشيخ أو قرأ عنهأو سمع، وقد سجّل هذا الكتاب اسمَ عارف في تجربته التوثيقية تلك ضمن كتّاب السير والتراجم، وكان زميلنا الأستاذ إبراهيم خليف السطام قد أورد قبل ذلك بعام نبذة عن سيرة الشيخ المبارك ضمن كتابه عن مسيرة التعليم في منطقة الجوف الصادر عام 1428 هجرية (2007 م). إن من يتتبّع مسيرة عارف الثقافية، يجد أن التربية كانت القاسمَ المشترك بين كثير من اهتماماته وأعماله، وسيلحظ بشكل جليّ أن الفكر الإسلامي قد تمكّن من تفكيره، ليس من خلال ما كتبه عن شيخه المبارك فحسب، ولكن من خلال أبحاث وكتب عدة، يأتي في مقدّمتها رسالةُ الدكتوراه التي حوّلها إلى كتاب قي عام 1426 هجريّة (2005 م) بعد عشرين عاماً من تخرّجه، وطبعت ضمن سلسلة الرسائل الجامعية التي يصدرها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية التابع لمؤسسة الملك فيصل الخيرية، والكتاب بعنوان : المنقول والمعقول في التفسير الكبير لفخر الدين الرازي (590 صفحة، في ثلاثة أبواب تحتوي على أحد عشر فصلاً) . والكتاب أكبر من أن يُختزل في موقف قصير كموقفنا هذا، لكن مقطعاً من مقدمة عارف يمكن أن تعطي فكرة عن هذا العمل الكبير، إذ يقول : « إن الاهتمام بفكر الرازي، بوصفه صاحب مدرسة توفيقيّة في التفسير، إنما يعني الاهتمام بشأن الأمة الإسلامية في حاضرها، وبمحاولاتها الجادة للتقدّم على طريق الخير، وهو شأن تحتاج معه الأمة الإسلامية اليوم إلى اجتماع الكلمة ووضوح الرؤية أكثر من أي وقت مضى، فمشكلة العالم الإسلامي المعاصرة تكمن في جمعه بين الجانب النقلي للأمة الذي يمثّل التراث الإسلامي بأصالته وعمقه وقيمته التاريخية والروحية، وبين الاتجاه العقلي المتمثل في التيّارات العلمية الثقافية الغربية، حيث تبدو ملامح القضية الحديثة بارزة على شكل حوار بين الأصالة والمعاصرة، وتلك هي قضيّة المسلم المعاصر، الأمر الذي يقودنا إلى القول بأن طبيعة قضيّتنا اليوم هي في جوهرها شبيهةٌ بطبيعة عصر الرازي حين لملم شتات الأفكار المتناقضة، وصَهَرَها في بوتقة واحدة يتحقق بها السلام النفسي للمسلم من جهة، والاطمئنان العقلي من جهة أخرى، فيكون التراث أو النقل وسيلةً لاستقبال ما يمليه العقل لصنع التقدّم، ويتحقق بذلك أمل منشود يُجنّب المسلم ما يعيش فيه من توتّر « انتهى. وكتاب آخر صدرت طبعته الثالثة سنة 1422 هجرية (2001 م)، وتناول فيه التوجيه الإسلامي للنشء في فلسفة مفكر إسلامي آخر هو الإمام الغزالي، صدرعن دار المعارف للبحوث والنشر والتوزيع بالجوف (في أربعة أبواب مكوّنة من اثني عشر فصلاً 200 ص)، ومرّة أخرى، يصعب على مقامنا هذا شرحُ مكوّنات هذا الكتاب الذي خصّص له ناديكم ذات ليلة قبل أكثر من عام ونصف أمسيةً لمناقشة مضمونه، لكن قراءة موجزة لبعض ما جاء في المقدمة يمكن أن تعطي فكرةً عنه، حيث يقول فيها : « ولما كنا نعايش في العصر الحاضر دعوةً متزايدة للرجوع إلى تراثنا الإسلامي الأصيل، فيما يتعلق بالتوجيه الأخلاقي للنشء، شعوراً بالحاجة إلى الاستهداء بذلك التراث، فإني قد وجدت في تحليل فكر أبي حامد الغزالي فيما يختص بهذه الناحية، ما يمكن أن نصل به إلى قدر مناسب من التوضيح لأساليب التوجيه الإسلامي للنشء، وما تقوم عليه هذه الأساليب من اعتبارات تختص بها النفس البشرية، حسبما يرى الغزالي، وما يمكن أن نلمّ به من من معالم حددها كمنهج تعليمي، ووسائل عيّنها للتوجيه وتهذيب الأخلاق، ذلك أنه بمقارنة القيم الأخلاقية الإسلامية بغيرها من المدارس العالمية الأخرى التي حرصت على إيجاد أطر للتوجيه الفردي والجماعي، نجد أن أصول التوجيه الإسلامي للناشئة، بما اشتملت عليه من قيم روحية وإنسانية ومثل سامية، لا يمكن أن تصل إلى مرتبتها أي مدرسة من تلك المدارس، من حيث الشمول والعمق وسلامة الغاية «. انتهى. وبعد ؛ وحتى لا يصبح محدثكم كجالب الزيتون إلى بلاد الزيتون، لم يشأ أن يستحضر بنود سيرة عارف وأنتم الأعرف بها، ولا أن يُعدّد الأعمال الخيرية التي نذر نفسه لها، ولا المكارم التي عُرفت عنه، ولا كيف أنه باشر التدريس في صغره قبل أن يحصل على الابتدائية، أو كيف جلس في مطلع شبابه للتدريس في جامع الشيخ المبارك في أثناء غياب الشيخ في الحج، لكن محدثكم أتى فرِحاً، يشاركُكُم حرصكم على استعادة ذكره بين الحين والحين، ومَن أجدر منكم - أهل الوفاء - في الاحتفاء برجل كرّس حياته لخدمة قضية التربية والتعليم والتنمية لموطنه، وحظِي باحترام وطنه وعشيرته لما عرف عنه من النزاهة والإخلاص والمروءات. وكم يسرّ المرء أن يرى وزارة التربية والتعليم، وقد اختصت اسم عارف بالتكريم في أثناء حياته مرفوعاً على إحدى المدارس التي شارك في تأسيسها، وكم يغتبط عارفُه وهو يجد اسم عارف حاضراً في كثير من المناشط الثقافية، وكم يغتبط وهو يرى مكتبة عارف تُهدى اليوم لأعرق مكتبة في الجوف ملحقة بمؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية في سكاكا، لقد كان عارف كتلةًن أعمال الخير تتحرك في كل اتجاه، وكان من كل برٍّ قريب. إن هناك أناساً لا تُدرك أهميتُهم وأثمانُهم إلا بعد فقدهم، أما نحن، فقد أدركنا قيمة عارف عندما كان بيننا، وشعرنا بالفراغ عندما اختطفه القدر بشكل مفاجئ في مطلع نوفمبر عام 2010 م، ونحس اليوم بخسارة كبرى بعد أن طالت غيبته. اللهم ارحم عارفاً وأكرم نُزُله، وعوّض محبّيه بحسن العزاء، واجبر مصاب الجوف بغيابه، واجزه خير الجزاء عمّا قدّم وأخّر.
* ورقة معدّة لندوة في نادي الجوف الأدبي
- الرياض