استكمالاً لاستعمالات الرموز وحقولها، والمعضلات التي تعترض تبنيها واستدعائها، مما جرى الحديث عنه في الجزء الأول، نتطرق هنا إلى منطلقات التحول الحقيقي للرمز من المفردة اللغوية والدلالة الإيحائية إلى التأثير الثقافي العميق في المجتمع والفرد.
وفي هذه المرحلة تتماهى الرموز اللغوية (دوال العلامات) مع المحسوسات من موجودات الطبيعة، ومنحوتات الإنسان الفنية، أو صوره الخرافية المتخيلة (مدلولات الأشياء والمجردات).
ففي بداية هذه المرحلة الثقافية يجري تحديد النواة الدلالية التي يتسم بها الرمز تاريخياً وعاطفياً وربما تنظيمياً في بعض الحالات (كما هي الحال في رموز الأحزاب الانتخابية)، ثم يستخلص منها الجانب اللا – دلالي، ويشتغل مستخدموها على إبراز جانب التأويل وتضخيمه، من أجل أن تتعسر المحاولات الفردية في النظر إلى فاعليتها الرمزية.
وبذلك تلتصق بها الوظيفة الرمزية التي ينتجها التأويل الموجه بنجاح، لكون استيعابها يكون على أساس أنها وظيفة جمعية مقررة سلفاً من أغلب المنتمين إلى الجماعة الثقافية أو المهنية.
فالرمز مقيد بالكون، فيكون عنصراً غير قابل للاختزال، أو أكثر صعوبة على الاختزال من العنصر الذي تشف عنه التجربة الإنسانية.
هناك رموز معروفة نشأتها، وأغلب استخداماتها ودلالاتها؛ من الثعبان الذي يعلو الكأس، الذي اتخذ رمزاً للدواء ضد سموم الأفاعي، الذي كان يحضّره بعض الكيميائيين قديماً، وقد أصبح يقوم بدورهم الصيادلة في العصر الحديث.
فبالتالي أصبح رمزاً للصيدليات في العالم أجمع، بغض النظر عن لغة البلد أو ثقافة المجتمع الذي توجد فيه الصيدلية.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثور الذي يعني القوة؛ فكان رمزاً لبعض الآلهة قديماً؛ بدءاً من الثور المجنح الذي اتخذه الآشوريون رمزاً للقوة الخارقة المؤثرة في الكون، بجسم ثور ورأس إنسان وجناحين، إلى الثور الذي اتخذه اليهود رمزاً للآلهة بأثر – فيما يبدو – من الثقافة اليهودية في منطقة الرافدين، التي تعايشت مع الثقافة البابلية في فترات السبي وما بعدها.
وقد امتد استخدامه في بعض الرياضات الموروثة من تلك الثقافة القديمة، مثلما هي الحال في مصارعة الثيران، أو الدعاية في العصر الحديث، خاصة مع المنتجات الموجهة إلى الرجال؛ من البولو إلى مشروبات الطاقة ريد بول وغيرها.
فماذا عن رمز المنحنى الجبري في تاريخه القديم والحديث؟ في الواقع إنه بدأ استخدامه عند اليونانيين للتعبير عن ورقة فاكهة العنب، وكانت تعني لهم الاستمرارية، وإعادة النبض في الحياة.
وفي العصور الوسطى أصبح رمزاً يمثل القلب، بسبب ما قامت به مصانع طباعة ورق اللعب في فرنسا (سنة 1480م) من وضعه كأحد أصناف اللعبة الأربعة (وهو الذي أصبح اسمه في الإنجليزية hearts، وأصبح تعريبه في البيئات الشعبية العربية: الهاص). أما عند العرب، فلم يتجاوز الرمز دوائر التعبير عن الحب، والتواصل الرومانسي بين الشباب والشابات، خصوصاً في كتابات الرسائل الغرامية، أو العبارات العبثية على الجدران.
ولماذا أصبح رسماً لقلب واحد، إن كان مصدره ثقافة لعبة الورق التي شاعت في أغلب بلدان العالم مع لونه الأحمر، وهو اللون الذي يحرص أصحاب الرسائل الغرامية أن يكون الرمز يحمله، إذا كان لديهم (أو لديهن الوقت للتلوين).
كما سعى بعض الشباب إلى استخدام الوشم بذلك الرمز (التاتو)، ليثبتوا رمزية العلاقة الدائمة مع من يحبون.
الخلاصة أننا نقوم باختلاق الرموز أحياناً لأشياء غير موجودة في الحقيقة، فنؤمن بأنها حقيقة؛ وهي أشياء لا يمكننا أن نثبت وجودها أو صحتها.. فصناعة الرموز هي إحدى الطرق التي تساعد عقولنا على استيعاب ما لا يمكن فهمه.
وتنشأ المشكلات، عندما نبدأ بالإيمان فعلياً بالرموز التي وضعناها نحن بأنفسنا.
- الرياض