لنصوص الرثاء فضاءات خاصة، ولدلالاتِها آثارها المتميزة، ولعاطفتها النصيب الأكبر من الصدق واقعياً وفنياً، ففيها لا يرجو المبدع من المخاطب شيئاً، لأنه لَم يعد يَملك القدرة على مكافأته، ومتى غابت الدوافع المادية لإبداع النصوص حضرت الدلالات الصادقة، وتَجلَّت العاطفة الجياشة، وتَجافت المبالغة الممقوتة، واختفت التملقات الغثيثة، التي قد تضر بالنص أكثر من أن تنفعه.
غير أنَّ مالك بن الريب الشاعر الأموي المبدع أبى أن يكون رثاؤه تقليدياً، واختار أن يُدهِش ويُعجِب، من خلال نصِّه الرثائي الفريد الذي توجَّه به إلى نفسه حين شعر بدنو أجلها، فكتب في فضاءاته رحلته الطويلة القصيرة، ورسم صوراً ومشاهد تداعت إلى ذهنه في تلك اللحظات الصعبة، ستسعى هذه المقالة المتضائلة أمام نصِّه العبقري أن تقرأ شيئاً من دلالاته، وتتلمس بعضاً من إبداعاته.
يقول مالك بن الريب في أحد مشاهد مرثيته:
تقول:
ابنتيْ لما رأت طولَ رحلتي
سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا
فللهِ دَّرِّي يوم أتركُ طائعاً
بَنيَّ بأعلى الرَّقمتَينِ وماليا
ودرُّ الظباء السانحات عشيةً
يُخَبِّرنَ أنّي هالكٌ مِنْ ورائيا
ودرُّ كبيريَّ اللذين كلاهما
عَليَّ شفيقٌ ناصح قد نَهانيا
ودرُّ الهوى من حيث يدعو صحابه
ودَرُّ صباباتي ودرُّ انتِهائيا
تذكَّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ
سوى السيفِ والرمحِ الرُّدينيِّ باكيا
وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانه إلى الماء
لم يترك له الموتُ ساقيا
ولكنْ بأطرف (السُّمَيْنَةِ) نسوةٌ
عزيزٌ عليهنَّ العشيَّةَ ما بيا
هذا هو أول المشاهد الحزينة من قصيدةٍ طويلةٍ للشاعر الأموي مالكِ بنِ الريب الذي أحسَّ بدنو أجله، واقتراب وفاته، فأبدع هذه الأبيات المتألقة التي يرثي فيها نفسه، في نصٍّ استثنائي من نصوص أدبنا العربي فكرةً وغرضاً وأسلوباً ولغةً وعاطفة، ولا عجب أن يعد بعض النقاد هذا النص أنه أعظم نص في شعرنا العربي كله قديمه وحديثه، وما ذاك إلا لأنه شعر بتلك الروعة وذلك الجمال الذي يكتنف مشاهد هذا النص العبقري الحزين الذي سأحاول أن أعيش في فضاءاته ومع مشاهده ولحظاته لعلي والقارئ الكريم نستطيع استكناه جزء يسير من أسباب جماله وأسرار روعته وبدائع لغته وأسلوبه.
لقد رسَمت هذه القصيدة البديعة نِهاية حياة هذا اللص الفاتك التي كانت نِهايةً كأروع ما تكون النهايات، ذلك الشاعر الذي تَحوَّل من قاطعٍ طريقٍ إلى مُجاهدٍ تائب، وأدركه الأجل وهو يَجوب (خراسان) غازياً في جند (سعيد بن عثمان)، وكانت ميتته من أغرب الميتات، هذا الفارس الذي خاض الملاحم الضارية لَم يَمُتْ بضربة سيفٍ أو طعنة رمح، بل من لدغة أفعى كانت نائمة في نعله، وكما يقول الرواة فقد كتب شاعرنا هذه القصيدة وهو يَحتضر، ولك أن تَحكم على صدق العاطفة فيها وهي تُكتب في هذا الموقف الفاصل العصيب.
يروي الشاعر ما كانت تُردِّده ابنته حين عزم على الخروج إلى الجهاد، ويذكر أنَّها كانت تُحسُّ حينها بأنَّها المرةُ الأخيرةُ التي ستراه فيها، في مشهدٍ تذرف منه العيون، وتتحشرج فيه الصدور، ولكن إحساس ابنته لَم يكن هو الوحيد، بل كان هو يُحسُّ أيضاً بذلك، يوم أن اختار طائعاً أن يترك ماله وبنيه راحلاً إلى فراقٍ ليس بعده لقاء، بل إنَّ هناك مَن أخبره بتلك الحقيقة المرة وهو في طريقه إلى الجهاد، وذلك حين أبصر تلك الظباءَ السانِحات اللواتي كنَّ يُبشِّرن بِموته ووفاته على الرغم من أنَّ العرب كانت تتفاءل بالسانح من الصيد، لكن الإحساس العميق والشعور المسيطر على نفس شاعرنا المتألق وهو ما زال يتذكَّر النظراتِ الأخيرةَ الحزينةَ من ابنته لَحظة خروجه الأخير كان أقوى من كلِّ ذلك.
بل إنَّ أبويه كانا على علمٍ ويقينٍ بنهاية الرحلة، وذلك حين نَهَيَاهُ عن الخروج، وأبوا عليه الذهاب شفقةً ونصحاً على ابنهما الوحيد الذي يبصرانه الآن يرحل طائعاً نَحو حتفه، ويسير مُختاراً إلى أجله، في موقف لا يُمكن لشاعرٍ أن يرسُمه إلا حين يعيش مشاهده بأدقِّ تفاصيلها، ولا يُمكن لِمبدعٍ أن يصوغ أحرفه إلا عندما تصل عاطفتُهُ فيه إلى أقصى درجات الصدق وأعلى مراتب اليقين، فحقيقة الموت وفراق الأحباب ليست بالحقيقة التي يستطيع كلُّ أحدٍ أن يُمثِّلها أو يتمثَّلها.
لقد عاش مالك بن الريب حياته بالطول والعرض، واعتصرها حتى الثمالة، فهو غير نادم على هذه اللحظات الأخيرة التي يصوغ فيها هذه الأحرف الحزينة، بل يذكر أنه معجب بنهايته كما كان معجباً ببدايته.
وينتقل بنا النصُّ إلى مشهدٍ مستقبليٍّ حين تَحين وفاة شاعرنا المتألق، فيصوِّر لنا بِخياله المتميز المراحل التي تلي انتقاله إلى الرفيق الأعلى مباشرة، ويذكر لنا أبرز الذين سيتأثرون بِموته، ويُجسِّد لنا أهمَّ الذين سيبكون لأجل فراقه، فقد تذكَّر مَن سيحزن عليه بعد أن يرحل عن هذه الحياة، فلم يَجد سوى سيفه الصارم الذي طالَما كان رفيقاً له في حِلِّه وترحاله، ورُمْحه الأشد الذي لَم يزل حتى لَحظاته الأخيرة وفيَّاً له، فكم أذاق الأعداء بواسطة هذين الصاحبين القتل والطعن، وكم سقاهُما من دمائهم، أفلا يَحِقُّ إذن لسيفه ورُمْحه بعد كلِّ هذا أن يبكيا أشدَّ البكاء لفراق هذا البطل الشجاع!
هل هذان هُما مَن سيبكي عليه فحسب؟ لا.. لقد تذكَّر باكياً آخر.. إنه خيله الأشقر الذي كان أشدَّ المفجوعين لوعةً وحُزناً، لقد كان رفيقَ كفاحه وقتاله، وصاحبَهُ في الفَلَوَات والخَلَوَات، ومؤانسَهُ في وحدته وانفراده، وها هو اليوم يظلُّ وحيداً بعد أن خطف الموت قائده وأبعدت المنية فارسه، ها هو يبقى وحيداً لا يَجد مَن يقوده إلى الماء ويَجر عنانه إليه ليسقيه منه بعد رحلةٍ طويلةٍ شاقةٍ أو معركةٍ ضاريةٍ طاحنة.
إنَّ تَخصيص الشاعر لِهذه الأمور الثلاثة بوصفها هي وحدُها التي ستبكي لفراقه وتتأثَّر لرحيله يدلُّ على أنه عاش الحياة وحيداً، وقضى لَحظاتِها في الحروب والمعارك، وبين الطعن والضرب، فهو مُمتطٍ ظهر خيله باستمرار، حاملاً بيمينهِ رُمْحَهُ وبشمالِهِ سيفَه، فلا عجب إذن أن تبكي هذه الثلاثة عليه وهي التي لَم تفارقه في حياته.
لكنَّ مالكَ بنَ الريب يستدرك في البيت الأخير من هذا المشهد مُتذكِّراً النساء في وطنه الغالي اللاتي سيصلهن نعيُه وخبرُ وفاتِه، وكيف سيكون استقبالُهنَّ لِهذه الفاجعة التي حطَّت، والمصيبة التي حلَّت، وهو هنا يَخصُّ النساء بِهذا لأنَّهُنَّ أشدُّ عاطفةٍ وأكثرُ إحساساً وشعوراً من الرجال، لذا فسيكون ما أصابه عزيزاً عليهنَّ، وسيكون استقبال هذا الخبر الأليم وذلك المصاب الحزين شديداً صعباً على قلوبِهِنَّ.
لقد كانت عاطفةُ الشاعرِ الصادقةُ الحزينةُ تلفُّ هذا النص منذ بدايته.. وكانت أبياته تفيض بِمشاهد الوداع ومواقف الفراق.. فمن فراق الابنة إلى فراق الوالدين إلى فراق سيفه ورُمْحه وخيله.. إلى فراق نسوة وطنه ومدينته.. وقد كان الجميع يُحِسُّ بِهذا الفراق ويترقَّب هذا الوداع في أيَّة لَحظة.. حتى إنَّ الشاعر نفسه قد شعرَ بقرب نعيه.. وأنَّ ساعته قد دنت.. ولذلك هو يَجود لنا بِهذه الأحرف الرائعة.. التي ما عرف الأدبُ العربيُّ أكثر صدقاً منها، وأشدَّ حزنا من أبياتِها..
Omar1401@gmail.com
- الرياض