لم تكن ليلة الثامن عشر من ذي القعدة عام 1433هـ أول معرفتي بالشاعر الرقيق عبدالرحمن النويصر، فقد تفضل بإهدائي ديوانه (لوعة الظنون)، وهو عنوان قصيدة في الديوان، ومعظم قصائد الشاعر فيض مشاعر يجيد نسج بنائها ويتفنن في تخير كلماتها الموحيات التي تلامس شغاف القلوب، ويحسب سامعه أنه يتحدث بلسانه ويحكي خواطره ويفصح عن مكنون نفسه، فإذا السامع يفرح في لحظات الفرح وإذا هو يأسى في لحظات الأسى. نجد في الديوان قصائد معبرات عن محبة الوالد ابنته (ذكرى)، وتأتي في مطلع هذه القصائد قصيدة (لوعة أب) التي يظهر اسم ذكرى في ثالث بيت، وهو من أجمل بيوت القصيدة لما اكتنز به من التفات إلى المأثور التراثي الرائع، يقول:
***
أبتْ ذكرى سوى قلبي مُثارًا
لنقع الشوق كسبًا للنزال
فإنا نستحضر، بهذا، الخيول الأصيلة العاديات التي أقسم بها الله تعالى، قال عز وجل: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات4]، ثم قول بشار بن برد:
كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤوسِنَا
وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُه
وكان مطلع القصيدة دعوة للتعالي مطرزًا بألوان من البديع، فالجناس في ثلاثة مواضع منه؛ إذ بدأ بفعل أمر يدعوها به للتعالي، ثم ختم باسم التعالي، فجمع بين الاسم المبيّن للحركة الفاعلة ثم الاسم المبيّن وضع الاستقرار والاستمرار بالاتصاف، ونجد الطباق في (تعالَي) من العلو والمنعة حيث يقابلها (تعالِي) دعوة للقدوم والمطاوعة، ونجد الجناس بين (تعالِي) الفعل و(تعالِ/تعالي) الاسم، يقول الشاعر:
تعالَي يا منى عمري تعالِي
وتِيهي في حياتي في تعالِ
وكان من أكثر ما أثار إعجاب الناس بالشاعر الرقيق المتواضع أبي ذكرى احتفاؤه بضيفه الشاعر أبي حسان وتقديمه له على نفسه وتصريحه بأنه يستحق أمسيّة خاصة لا ينازعه فيها أحد، ومن قصائد الشاعر عبدالرحمن النويصر التي شدّت الجمهور قصيدته في ابنته ذكرى حين عاد من سفره فلم يجدها، لأنه تعود أن يقبلها قبيل نومه، فكان أن جمع بعض أشيائها أمامه فكانت قصيدة سكب فيها عبراته، ومنها قوله:
تتصاغر الدنيا إذا ما أقبلت
كلُّ القريض بما سواها أضيَعُ
واستعماله (أضيع) هنا من الاستعمالات النادرة في العربية حين يأتي أفعل بمعنى فاعل، كما في مطلع لاميّة العرب للشنفرى:
أقيموا بني أميّ صدور مطيكم
فإني إلى قوم سواكم لأميل
فقوله (أميل) أي: مائل.
ومن طرائف أبياته ما نجد فيه القلب في المعنى، فإن يكن المألوف أن يلوك المتحدث الحروف مجازًا فإن الشاعر قلب المعنى، فجعل الحروف أنفسَها تلوكه تعبيرًا عن فقده التحكم والسيطرة بسبب بُعد حبيبته ذكرى عنه، وهذا جعل الحروف تتشكل بما يرضي النفس ويؤنس الخاطر، يقول:
وإذا تولت فالحروف تلوكني
في كل سطر للصغيرة موضع
ويعبّر عن ذروة شغفه بها حين لا يرى غيرها فيجعلها حجابًا دون الخلق:
يتبدّد الأحباب حين لقائها
فكأنها دون الخليقة برقع
ومن قصائدة التي أطربت السامعين (سحائب الحسن)، ومنها قوله:
صنعَت جنون العقل وهي بعيدة
ببراعة الأشكال والأسماء
وليس غريبًا أن تفعل ذلك وهي كما قال:
فيها من الأرض البسيطة سهلها
ومن السماء تطاول الجوزاء
وأعجب من ذلك قوله:
العين ماءٌ والرموش كدوحةٍ
واللحظ دائي والشفاه دوائي
ومن القصائد الشجية ما عبر به عن قريبته (نوال) التي توفيت فعُصر قلبه، وأشجى بشجوه السامعين، قال:
مضتْ في غير ما نَرجو نوالُ
وما بالدمع للراجي نوالُ
وإذ بالقلب ثاوٍ في هموم
كما صيدٍ تخرّمُه النبالُ مضت
خير البدور إلى زوال
فما يجدي رثاءٌ أو سؤالُ
ثم يدعو الشاعر إلى الاعتبار من مصائب الدنيا ومفاجآتها حتى يقول:
فلا وعظٌ سينفع كالمنايا
ولا خُطَبٌ تُبلِّغُ أو مقالُ
ويختم قصيدته ختامًا مؤثرًا يدعو فيه للمرحومة:
فنوّرْ يا إلهي القبر أنسًا
فمنك إليك يا ربِّ السؤالُ
أعود إلى القول إن الشاعرين أبا حسان وأبا ذكرى أبدعا في الأمسيّة التي نظمها النادي الأدبي في القصيم فرع المذنب، وإن سماعهما وسماع ردودهما على المداخلات والأسئلة شيء ليس إلى وصفه من سبيل، فالشكر لهما والشكر لمدير الفرع الأستاذ الأديب عبدالرحمن الغنايم، وللجمهور الذي جعل الأمسيّة مشهدًا جميلاً.
- الرياض