ينبني الاختلاف الثقافي على أن الثقافة ليست إيماناً إنما هي اعتقاد المرء بأهمية أفكار نهضوية مخصوصة وإيجابيتها في تعديل سلوك الإنسان وتحسين إنتاجه.
وقد يسأل البعض هل أهمية الفكرة الثقافية محصورة فقط في تأثيرها الإيجابي على سلوك وإنتاج المُستفيد من تطبيق الفكرة الثقافية؟..
وقبل الإجابة على السؤال السابق أريد أن أوضح المقصد «بالأهمية»..
يميل الكثير منا إلى ربط الأهمية بكفايات «احتياجات الواقع» وبذلك يُصبح المقصود «بالأهمية» هو «الكفاية النهضوية لتطوير سلوك المواطن وإنتاجه».
لكن البعض الآخر يشترط في «الكفاية النهضوية» موافقة «المرجع» ومناسبة « المقام».
ومن هنا يرى أنصار الشرطية أن إيجابية الفكرة الثقافية في مطلقها ليست بالضرورة هي التي تشكل الأهمية المستدعية لتطبيق الكفاية النهضوية دون توفر حماية الشرطية.
وإن الاحتكام إلى الكفاية النهضوية وفق أهميتها في ذاتها فيه إضرار للمرجع وللمقام.
وفي المقابل يرى معارضو الشرطية إن ربط «تحقيق الأهمية» بالموافقة الحرفية للمرجع ومناسبة المقام فيه تجاهل لقيمة الكفاية النهضوية.
لأن الكفاية النهضوية في ذاتها هي حامل بالمقتضى لأي موافق مرجعي؛ لأن المرجع ذو الأصول الطبيعية يتضمن في مقتضاه خاصية التطور المستديم الذي يسمح تلقائياً بتجديد الكفاية النهضوية وتفعيل صيرورتها.
وإن مناسبة المقام قد تتعرض للهوى الفئوي أو المذهبي أو الفكري أو هيمنة الأغلبية، ولذلك لا يمكن أن تكون مصدر احتكام لتجويز الكفاية النهضوية لِم فيها من تضارب للمصالح.
وبذلك يصبح المأزق الحقيقي للكفاية النهضوية هي التنازع على «ما يُحسب شرعية المقام».
وجدلية هل شرعية مقتضى الحاجة تلغي ما يُحسب شرعية المقام» أو تحل محل ما يُحسب شرعية المقام؟..
أما ما هي ماهية المقام؟ فيمكن تقديمه باعتبار تأثيره فهناك من قد يعتبره «المعادل الإجرائي للواقع التنفيذي».
وهناك من يعتبره «جزءاً من المنظومة التشريعية للواقع التنفيذي».
وهناك من يعتبره «فاعل الاختيار والإقرار».
ولا يمكن إنكار ما تمثله اعتبارات ما هية المقام بالتأثير على طاولة حوار الاختلاف الثقافي من اضطراب.
لكن هناك ماهو أكثر تأثيراً من اعتبارات ماهية المقام على طاولة حوار الاختلاف الثقافي وهو «جذر نشأة المقام» التي غالباً ما يُؤطر بقدسية المرجع، بدلاً من أن يؤطر بمقتضى الظرف، وهو ما يؤدي أقصد قدسية الواقع إلى صراع الخلاف بين المثقفين، وخاصة عند ربط جذر نشأة المقام بخصوصية المجتمع وهويته، لأنه ربط يُنتج فيما بعد «قدسية الواقع التنفيذي».
وخطورة طرح «قدسية الواقع التنفيذي» على طاولة حوار الاختلاف الثقافي تكمن في أنها تُحصّن الواقع من تأثير أي «كفاية نهضوية»؛ باعتباره أي الواقع جزءاً من قدسية الموافقة الحرفية للمرجع.
إن الواقع كمجموع من التشكلات الظرفية هو ناتج في ذاته، وليس مُنتجا، وهذه الجذر لتكوين الواقع يُمكننا من فهم العلاقة بين المقام والواقع والخطاب، الخطاب كونه الممثل الرسمي «لحوار الاختلاف الثقافي».
وإمكانية فهم العلاقة بين الواقع والخطاب الثقافي في ذاته هو خاضع دوما لجدلية الاختلاف على مستوى النشأة والأسبقية؛ فمن يصنع من؟ هل الواقع هو الذي يصنع الخطاب الثقافي، أم الخطاب الثقافي هو الذي يصنع الواقع؟.
وهنا يظهر لنا مأزق الإلزام بشرطية الكفاية النهضوية أو رفع الشرطية عنها.
إن الإقرار بفاعلية الكفاية النهضوية في تشكيل الواقع فيه إلغاء لقدسية المرجع التاريخي الفاعل لنشأة الواقع، واستبدال نص المرجع التاريخي بالخطاب الثقافي المتكافئ مع صيرورة الكفاية النهضوية.
وبذلك سيّصبح الخطاب الثقافي هو المتحكم في نشأة الواقع وتطويره باعتباره هو»المرجع».
وفي هذه الحالة سترفع حصانة التقديس عن الخطاب الديني ويُصبح قابلاً للتفكيك وإعادة الإنتاج وفق الكفايات النهضوية، وهنا قد نقع في مأزق «تقديس الخطاب الثقافي».
والإقرار بفاعلية المرجع التاريخي في نشأة الواقع فيه حصار لمقتضى الكفاية النهضوية عبر شرطية المرجع.
وتحديد لمسار الخطاب الثقافي عبر إعادة إنتاج نص المرجع مما يكرس بدوره لقدسية النص التاريخي من خلال تكرار مواصفات ذلك النص وهو ما أسميته فيما مضى «بخدعة الفرزنّة».
وبذلك تُصبح الإجابة على سؤال البداية، ليس بالضرورة إن تمثل إيجابية الفكرة الثقافية انتصاراً للكفاية النهضوية وتشريعاً كافياً لتطبيقها في ذاتها بالمطلق.
وهكذا تتحول «الكفاية النهضوية» الداعمة للتنمية المستديمة للواقع من مُعيّنات تحالف حوار الاختلاف الثقافي باعتبارها مصدر نفعية حيادية، لا تحمل في ذاتها تحيزاً مذهبياً والطائفياً، ولا أعني أنها لا تحمل في ذاتها القابلية للتمذهب والطائفية فهي قابلة للاستغلال كما أنها قابلة للاستثمار وهي ما تؤهلها لتتحول إلى مُفسدة من مفسدات الثقافية، إضافة إلى قدرة الكفاية النهضوية على مرونة التشكل وفق طبيعة الإستراتيجيات المختلفة.
أقول هكذا تحولت الكقاية النهضوية إلى مُفسدة من مفسدات الاختلاف الثقافي؛ ليس لأن شرطيّة المقام تدخل ضمن المعياريات الصورية المُثبتة للأحادية التي يتهرّم معها الحوار، بل أيضاً بسبب ما تُنتجه من صراع امتلاك حق التصرف في الواقع، وذلك الصراع إمّا أن يُقدسنّ الواقع التنفيذي الذي يحاصر الكفاية النهضوية بمواصفات تكرار التجربة التاريخية، وهي قدسية تؤدي إلى نزع أحقية الخطاب الثقافي في المشاركة في صناعة الواقع أو تجديده.
أو يحوّل الواقع إلى حقل تجارب مما ينزع عنه أصول استقراره، وحينها يصبح الغرض من الكفاية النهضوية الدلالة على هيمنة الخطاب الثقافي على صناعة الواقع وفق مصلحة ذلك الخطاب لا مصلحة الواقع وغالباً هذه الحالة تسعى إلى قدسنّة الخطاب الثقافي من خلال حصار الكفاية النهضوية عبر وصاية الخطاب الثقافي عليها، ونزع أحقية الخطاب الديني من التدخل في تجديد الواقع أو المشاركة في صناعته.
وهذا الصراع على حصار الكفاية النهضوية لامتلاك حق التصرف بفاعلية الإقرار والاختيار نيابة عن الواقع، هو الذي يؤدي إلى «تهرّم حوار» الاختلاف الثقافي، ما بين القمة والقاع.
والتهرّم بدوره يُفرز قدسية القمة وحرمانية القاع، بحيث تتغير معه معادلة التوازن في التوزيع المتكافئ لنفعية التصور المشترك للكفاية النهضوية التي يتداولها شركاء صناع الواقع بفواعله وفاعلياته وممثلاته.
ليُذبح المجتمع على طاولة المثقفين بين «حراس الفضيلة» و»شياطين الغواية».
وكلّ يدعي أنه «الرب الأعلى للمجتمع».
- جدة