لكن ما أهمية تصحيح هذا التاريخ؟
إن الأمم لا تقوم بفعل وجود جغرافيا مشتركة تجمع مواطنين في وطن قومي واحد وحسب، فيصبحون تلقائياً أمّة لها هوية وطنية جامعة؛ فهذا وهم ما بعده وَهْم، إذ كمْ من أمةٍ تمزّقت وهي تعيشُ في جغرافيا واحدة؟ إن العامل المركزي في تشكلّ الأممّ وصمودها في المسرح الإنساني وتقدمّها وتطورها أيضاً، كان وما يزال مزيجاً خلاّقاً من عاملين (ومحرّكين) جبارين: اللغة الواحدة (الرسمية وليس لغات متنافرة ومتصادمة أو لهجات محلية أو قبلية منقرضة) والتاريخ الواحد، أي وجود سردية تاريخية موحدّة ومتماسكة، تروي فكرة الهوية الوطنية الجامعة لمواطنين يرغبون في البقاء كأمّة، وليس روايات متناقضة متنافرة، أو «تاريخات» تجعل منهم جماعات متصارعة حول التاريخ وأحداثه.
ولعل التجربة الأمريكية -والإسرائيلية في صورتها الراهنة- هي التطبيق العملي لهذا التصورّ؛ إذ لم تكن الجغرافيا كافية بذاتها ولذاتها، لخلق أمّة أمريكية موحدّة، هي في الأساس مواد اجتماعية متحللّة من أعراق وثقافات مختلفة عبرت ضفة الأطلسي من أوروبا. ولذا كان لا بد من انتصار نهائي، ناجز وتام اللغة الإنجليزية على كل اللغات واللهجات التي جاء بها المهاجرون، ومن ثم صهر كل الجماعات اللغوية في جماعة لغوية واحدة. ولم يكن ذلك كافياً بطبيعة الحال، لخلق واستكمال عمليات نشوء الأمّة الأمريكية، فكان لا بد من إنشاء سردية تاريخية موحدّة لهذه الجماعات، تعيد إنتاج وصياغة وحدتها على أساس وجود تاريخ مشترك يجمع مواطني الدولة- الأمّة، يصعد بها إلى ماضٍ بعيد، ويوطّد فكرتها الجديدة عن نفسها كأمّة قديمة مثل سائر الأمم الأخرى. وهذا ما يفسرّ لنا سرّ الهوس في الثقافة التاريخية الأمريكية، بوجود صلة روحية وثقافية بإسرائيل القديمة ( واستطراداً المعاصرة)؟
إن هذا الهوس القديم - المستمر والمتجددّ في الثقافة الأمريكية بوجود علاقة عضوية مع إسرائيل، لا يمكن تفسيره بالعامل السياسي وحده. ثمة عامل مركزيّ آخر، يتصل بحقيقة أن وحدة الأمريكيين كأمّة، باتت رهناً بوجود سرديّة تاريخيّة موحدّة، تروي بصوت واحد حكاية العلاقة العاطفية، الوجدانية والروحية التي تربطهم بإسرائيل التوراتية. أي بالماضي المخترع لجماعات لا رابط بينها، وهي وجدت نفسها أثناء الهجرة الجماعية الكبرى من أوروبا نحو الضفة الأخرى من الأطلسي، وكأنها لن تتماسك كجماعة واحدة مهاجرة صوب واطن واحد يجمعها، إلا إذا امتلكت سردية تاريخية ذات مضمون عاطفي وروحي يصعد بها في سلمّ التاريخ البعيد نحو أبعد نقطة ممكنة فيه. ولقد لعبت هذه الرواية دوراً هائلا في إبقاء الأمريكيين أمّة موحدة على مستوى الوجدان العاطفي التاريخي. وللمرء أن يتخيّل، ما الذي يمكن أن يحدث لوحدة هذه الأمّة في غياب سردية مركزية من هذا النوع؟ وكيف يمكن صهر الأعراق والثقافات المتنافرة، الأوروبية والشرقية والإفريقية ومعها العرق المكسيكي؟ ولذلك، يتوجب ملاحظة، أن خلق الأمّة الأمريكية تلازم مع خلق و(اختراع تاريخ) مشترك يوحدّ وجدان المهاجرين الأوائل ويمكنّهم من أن يصبحوا مواطنين جدداً.
لكن هذا الأمر لا ينطبق على حالتنا العربية - الإسلامية، لأن المستشرقين خلقوا لنا تاريخاً هو بطبيعة إنشائه مولدّ لتمزّقات الهوية، لأنه تاريخ مليء بالمغالطات والأكاذيب.
لقد اخترعوا لنا تاريخاً لتعميق الفرقة، بينما أنشأ الأوربيون المهاجرون لأمريكا، سردية تاريخية خاصة بهم لتوطيد وجودهم ووحدتهم الجديدة.
هولندا