Culture Magazine Thursday  12/04/2012 G Issue 369
فضاءات
الخميس 20 ,جمادى الاولى 1433   العدد  369
 
نشوة الكاتب وفيضان قلمه
وائل القاسم

 

قد تمرُّ على الشاعر أيام أو أسابيع أو شهور، بل سنوات أحياناً، دون أن تهمس شفتاه ببيت شعري واحد، وتبقى أبواب قريحته مؤصدة أمامه رغم اجتهاده في فتحها، حتى يأذن القدر بكسر أرتاجها لسبب أو أسباب ظاهرة أو خفية. وكذلك الحال مع النثر؛ فقد يشعر الكاتب في أوقات معينة - تطول أو تقصر - باختلاط حبال الأفكار، وتشوش الذهن، وانعدام الرغبة في الكتابة، وغياب القدرة على نسج الجيد من الأسطر، بل قد تموت تلك القدرة نهائياً في بعض الأحوال لظروف معينة.

إلا أن صاحب القلم لا بد أن يشعر - في المقابل - بأوقات إبداع أخرى رائعة تنتابه بين الحين والآخر. إنها تغزوه على حين غرة.. إنها تداهمه.. إنها فينات ذهبية نفيسة يحس فيها الكاتب بصفاء ذهني، ونشوة فكرية روحية يعقبها أو ينتج عنها فيضان غزير وتدفق طاغ لمداد القلم. عندما تهطل أمطار تلك النشوة تشرع أمام اليراع أبواب الخيال والتعبير والربط والتحليل واستحضار المعلومات. إنني أشعر بذلك الآن.. أحس بذلك العنفوان الذهني النفسي في هذه اللحظات؛ ولذلك اخترت هذا الموضوع دون غيره. إن هذه الحالة التي أعيشها وأنا أكتب هذه الأسطر تمر بي من حين إلى آخر، فقد استيقظت صباح اليوم على صوت جرس الرغبة العارمة في الكتابة، ثم انطلق قلمي راكضاً على صحائفي، فأنهيت ثلاثة مقالات قبل هذا المقال، بعد عزوف طويل عن الكتابة بلا سبب ظاهر!

المهم في الموضوع هو أنني حاولت سابقاً وما زلت أحاول باستمرار فك طلاسم هذا الشعور، وفَهم هذه الظاهرة المستعصية، وتفسير لغز هذه الأوقات الثمينة النادرة، التي أعتقد أنه يجب على كل صاحب قلم استغلالها جيداً، وترك جميع أعماله الأخرى -قدر الاستطاعة- عند شعوره بنزول وحي الأفكار على مداركه وهطول حبر قلمه على دفتره.

سألت بعض الزملاء الكتاب عن هذا الأمر، فأجابني غالبهم بأنهم يمرون بتلك الأوقات الساحرة التي تقتحم حماهم دون سابق إنذار أو مقدمات، فتتضاعف فيها قدراتهم على الإبداع الكتابي، وأظن أن خلف هذه الحالات الجميلة التي يشعر بها الكتاب أسراراً دفينة وأسباباً خفية، وأن لها نواميس غامضة متوارية، كغيرها من الأمور الكثيرة التي نلمسها في حياتنا ونتوقع أن لها قوانين خاصة، نعجز أحياناً عن اكتشافها وتفسيرها.

لن أطيل الحديث عن العوامل المجهولة الخفية المحركة للقلم والمحفزة للكاتب؛ لأنها متوارية عني، وقد تعددت وتضاربت أقوال الفلاسفة وعلماء النفس وغيرهم من الأدباء والحكماء حولها، عند خوضهم في أسرار النفس البشرية ومحاولة اكتشاف وفَهم عجائبها!

أما العوامل الظاهرة لي، التي أوصي الجميع بالتركيز عليها والاهتمام بها، ومحاولة ربطها ببعضها لتنتعش أقلامهم وتتفجر قنابل طاقاتهم الكتابية فمنها: النوم الكافي (ليلاً)، وهذا مهم جداً؛ فقد لاحظت أن نوم النهار لا يشبع ولا يريح مهما طال، وأن تلك الساعات الجوهرية الثمينة التي تزيد فيها الرغبة والقدرة على الكتابة تحل علي غالبا في ساعات الصباح الأولى، عندما أنام مبكراً.

ومنها الإفطار الصحي المنوع الخفيف قليل السكريات والدهون، فقد ظهر لي جليا أن قلة السكريات والدهون في وجبة الإفطار من أهم وسائل تفتق الذهن وتدفق حبر القلم في الصباح.

ومنها المشي قليلاً بعد الإفطار وقبل البدء في الكتابة، وحبذا لو قام الكاتب بالاستحمام بالماء الذي يميل إلى البرودة بعد الانتهاء من المشي وقبل استلام قلمه، وحبذا أيضاً لو تم توفير نوع من مشروبات الاسترخاء الروحي كبعض الأعشاب مثلاً أو غير ذلك، كما أن الإقلال من التدخين مهم في السويعات التي تسبق الانطلاق في التأليف أو البحث أو النظم إن كان الكاتب مدخناً؛ فهناك -فيما يبدو لي- ارتباط وثيق بين الإحجام عن الكتابة وزيادة مستويات النيكوتين في الدم!

والخلاصة باختصار شديد: جرب أيها الكاتب أن تنام بعد العشاء مباشرة، وأن تستيقظ مع الفجر، ثم تناول إفطاراً صحياً خفيفاً منوعاً، ثم قم بحركة بسيطة (كالمشي عشر دقائق مثلاً)، ثم الاستحمام بالماء البارد، ثم استلم قلمك وأوراقك وأنت ترتشف مشروباً مرخياً، وانظر إلى النتيجة، مع ضرورة ملاحظة أن الوصول إلى تلك النشوة النفسية العقلية المنشودة قد لا يتحقق في كل مرة تقوم فيها بهذه الأمور؛ لوجود أسرار خفية أخرى كما أسلفنا، فعليك تكرار الأمر وبذل الجهد وتلمس كل سبب يوصلك إلى تلك اللحظات الفريدة، وتأكد أن ما سينتجه قلمك فيها سيكون كافياً لتعويض كل تعبك في المرات والمحاولات السابقة، التي تعبت فيها طلباً للوصول إلى هذه النشوة العالية، التي لن تتحقق إلا إذا صادف حدوث الأسباب المجهولة قيامك بالوسائل المعلومة المعينة على الإبداع.

إن الموضوع كبير جداً، ويستحق الاهتمام قطعاً؛ لأن صاحب القلم قد يستطيع - كما قد حدث - كتابة قصيدة كاملة أو إنهاء تأليف كتيب جاهز للطبع، أو الانتهاء من تأليف فصل طويل أو باب كامل من كتاب، في جلسة واحدة من تلك الجلسات الجميلة المبهرة، التي لا يزيد عمرها على ساعات معدودة من الزمن لا تقدر بثمن.

أوصي جميع الكتاب والأدباء عامة، وكتاب المقالات الصحفية خاصة ببذل كل ما يستطيعون للوصول إلى تلك الحالة العقلية النفسية السامية العالية؛ لأن ذلك سيجعلهم أكثر عطاء، وسيجعل سلالهم ممتلئة دائماً بما لذّ وطاب من المقالات ثقيلة الوزن، وهذا ما يمكنهم من التجاوب السريع مع أي وسيلة إعلامية تستكتبهم، وهنا يكمن الظفر والنصر.

وأحب أن أشير أيضاً إلى نقطة مهمة في هذا السياق، فقد كنت دائماً أضع جداول عمل لملء سلة مقالاتي بين الحين والآخر، ولكن الخطأ الذي كنت أرتكبه باستمرار هو أنني كنت أبدأ بالمقالات السهلة أولاً، وأترك الصعبة منها في نهاية تلك الجداول، كسلاً وتقاعساً كعادة أمثالي من المزاجيين المتثاقلين.

كنت أظن أن هذا هو الأسهل على الجسد، والأخف على النفس. ولكني اكتشفت - مؤخراً - أن هذا ليس صحيحاً، وأن القيام بالأعمال الصعبة وإنجاز المهام المتعبة في بداية الجدول اليومي أو الأسبوعي أو الشهري هو الأكثر راحة وفائدة.

وهذا لا يخص كتابة المقالات فقط، بل قس عليه البداية بالصعب في كل شيء.

إن الطاقة والانتعاش والحماس والحيوية تكون أكثر في بداية كل عمل، وتبدأ بالضعف والتلاشي والتناقص التدريجي كلما قطع العامل شوطاً أكبر في عمله.

ولا أخفيكم أني تندمت على عدم اكتشاف هذه النقطة الدقيقة في بداياتي؛ ولذلك أنصحكم جميعاً بوضع الأعمال السهلة الميسرة في نهاية المطاف عند قيامكم بأي عمل، سواء كان جسدياً أو ذهنياً؛ ليكون الاسترخاء الناتج عن سهولة الأعمال الأخيرة في النهاية كالجائزة التي تستحقونها نظير ما أنجزتموه من الصعاب الشاقة في البداية.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة