تتمثل الرؤية الشعرية عند أحمد الصالح (مسافر) في ديوانه الجديد: «الأرض تجمع أشلاءها» (النادي الأدبي بالرياض، الطبعة الأولى 1433هـ 2012م) في التعبير شعريا عن القضايا الوطنية، وإيلاء ما هو وطني عام البعد الدلالي الأول للتجربة الشعرية عنده. تاريخياً آخر نص يضمه الديوان كتب منذ سنوات عشر، فهو مؤرخ بالعام (1423هـ) وهو نص يحمل عنوان: وفي الأرض متسع للنفير (ص. 101-106) النصوص الباقية في الديوان الذي يضم 21 نصا، كتبت بين عامي (1401- 1423) أي خلال 22 عاما، وهي مرحلة تغطي العقدين الأخيرين من القرن العشرين الميلادي.
لن نقف على دراما الأحداث العربية تلك المرحلة، لكن نشير إلى أن السياق الجمالي للشعرية العربية في هذه المرحلة شهد تحولات جمالية وفنية عدة، أنتجها شعراء رواد القصيدة الحديثة وأسهم معهم الشعراء من مختلف الأجيال في تقديم شعريات عربية متنوعة.
شهدنا فيها توظيف الرؤية الملحمية للقصيدة كما عند درويش وأدونيس، وانشطار الوعي النصي في حالة تشظ نشطة ودائبة، كما لدى البياتي ومظفر النواب بل شهدت تعميقا للجراح العربية شعريا كما في نصوص أمل دنقل ونزار قباني وأحمد مطر وسعدي يوسف على الرغم من الغنائيات الشعرية وهي أشبه بالمراثي التي طرحها سعدي يوسف في أعماله الأخيرة في هذه المرحلة.
كان الوضع الشعري مقاربا للواقع في مأساويته، الطالعة من الغزو الصهيوني للبنان وتداعياته، وحرب الخليج الأولى والثانية، والتشظي العربي المعتاد الذي يغطي الصفحات السوداء للتاريخ العربي المعاصر.
في هذه الأجواء كتبت نصوص أحمد الصالح، وهي نصوص شديدة الاحتفاء بالحدث العربي، وعلى الرغم من هذه المأساة التي تؤطر هذا الحدث، فإن الصالح، ظل متمسكا بحفاوته الغنائية بالقصيدة، ولم يلتفت إلى الوعي التجريبي أو الملحمي أو الدرامي لها، على الرغم من وجود عناصر درامية في بعض نصوصه كما في (تداعيات) مثلا، التي تتعدد فيها الأصوات ويغلب الحوار الشعري.
بيد أن لغته الشعرية ظلت كما هي تكتب بشفافيتها وتلقائيتها: عانق سيف أبيك ألق النظرة بعد النظرة تلك النبتة تلك الدار هذا الليل الموحش هذي الصبية هذا أنت.. الزمن المعشب إثما أنت.. رمتك الأرض بسهم واحد ألق النظرة قبل الصمت ألق النظرة أزف الموت.
شعرية أحمد صالح الصالح أيضا تنبع من اشتغاله الدائب على بنية دلالية متواشجة بين دلالات الحب ودلالات الوطن، إنه عاشق لوطنه، لتفاصيله، لمدنه وقراه وناسه، وهو في ذلك يقيم في نصه مغزى دلاليا كبيرا تتواشج فيه الذات مع الأفق العام للوطن.
هذا الأفق العام تكسوه لغة مكتنزة بدلالات الحب، وهنا يصبح ما هو ذاتي يعبر عن الوطن في الجوهر.
ولا تثريب علينا ها هنا أن نستعيد بعض ما قلته سابقا عن تجربة الصالح حيث تتنوع القصيدة لديه، وهو في كتابته قصيدته يحتفي بتطريب القصيدة وإنشاديتها، وغنائيتها، على الرغم من قيامه بكتابة الشكل البيتي بتوزيع بصري جديد يحقق درامية ومكانية ما بين فعل القراءة وفضاء الصفحة.
وهذا التنوع يتمثل في كتابة الشكلين: البيتي والتفعيلي، والتنويع في سياقاتهما، بحيث تتجاور إلى جانب الأنماط البيتية أشكال تفعيلية متعددة، أبرزها: الشكل المقطعي المكون من فقرات شعرية ذات فواصل، والشكل المقطعي المرقم، والشكل ذو البنية القصيرة المقفاة.
وتتقارب نسبة حضور القصائد في هذين الشكلين لدى الصالح كما توضح هذه الإحصائية عن دواوينه الأولى: ما لدي وانعدد القصائد الشكل البيتي الشكل التفعيلي 1عندما يسقط العراف 4415292 قصائد في زمن السفر 2616103 انتفضي أيتها المليحة 2712154 من الأشعار الأولى 301812 المجموع 1276166 فكما نرى وفق هذه الإحصائية فإن عدد القصائد في الشكلين يكاد يكون متقاربا، وكان الشكل البيتي هو الغالب في قصائد الشاعر الأولى التي أصدرها بعد دواوينه الثلاثة بعنوان: «من الأشعار الأولى» فيما كان الشكل التفعيلي غالبا في ديوانه الأول: «عندما يسقط العراف»، وما يعنينا هنا أن وفرة النماذج البيتية في قصائد الشاعر الأولى تنم عن سعيه لامتلاك النموذج الشعري الموروث، وإلى تمثل إنشاديته وغنائيته، وما يمنحه للشاعر المبدع من فضاءات جمالية مخايلة تمتد بمسيرة الشعرية العربية، وتاريخها العريق.
لقد حدثت تحولات جمالية في قصيدة الصالح في أفق هذين الشكلين، تتمثل في التالي: 1- إيثار الجمل الشعرية القصيرة على ما عداها من جمل شعرية، وإيثار البنية القصيرة في تكوين قصيدته الشعرية.
2- التنويع في الأنماط الشكلية للقصيدة ضمن هذين الشكلين.
3- التجريب البصري، وإعادة تزمين القصيدة عبر استثمار الفضاء الطباعي للصفحة وعلامات الترقيم.
4- تعميق الدلالة النصية للقصيدة عبر الكتابة في موضوع أثير لدى الصالح هو موضوع الحب.
5- اكتشاف فضاءات درامية جديدة أتاحتها الكتابة الشعرية عن بعض الأحداث والوقائع الوطنية والسياسية العربية.
إن السيرة الجمالية للشاعر الصالح وهو أحد رواد الشعر الجديد بالمملكة، تتطلب قدرا من التأمل، وإعادة القراءة النصية للبحث عن الشعريات الكامنة بها، ولتوسيع أفق السؤال سعيا للخروج من هذه الرؤى الضيقة التي لا تستوعب إمكانيات الأشكال الشعرية، وتعرض دائما عن قراءة القصيدة البيتية قراءة فاحصة بزعم أنها تتسم بالتقليد والمحاكاة، مع أنها لدى الشاعر المبدع تختزن داخلها سمات وخصائص جمالية على درجة من الأهمية، وهو ما يتجلى في تجربة الشاعر أحمد صالح الصالح المترعة بالبحث عن الجمال، واستثمار طاقات المخيلة في اكتشاف مساحات الحب داخل الكينونة الإنسانية، بلغة تواقة، فاتنة، موقعة، رائقة.
الرياض