الأدب كائن حيّ يتفاعل مع واقعه فيعبّر عنه بأشكال مختلفة وقد يصيبه الضمور في بعض أنماطه كما قد يولّد أخرى في إطار تفاعله مع بيئته ومع كل العوالم الإبداعية، وفي هذا الإطار ظهرت القصة القصيرة جداً, وقد برزت أصوات أدبية عربية تشتغل على القصة القصيرة جداً وتبدع في الكتابة بها لتقول من خلالها ما يُقال وما لا يُقال, ومن بين الأصوات الإبداعية الشابّة نجد المبدعة شيمة الشمري من خلال مجموعتها «أقواس ونوافذ» واختارت شيمة لكتابها لوناً ترابياً وكأنها تقول لقارئها إنها تعجن من التراب صلصال قصصها وإنها تستمدّ من الإنسان همومها ومن المجتمع قضاياها ومن الأرض أوجاعها.
وسط الغلاف صورة لسفينة تتصارع وسط عاصفة بحرية هوجاء, فهل تريد الكاتبة أن تقول من خلال هذه اللوحة التي اختارتها إنها هي السفينة التي تهزها رياح وأمواج المجتمع ويلفها غموض القدر؟ هل هي التي تطلّ على نفسها الثائرة والمتمردة والرافضة.. لتقول أنها تراقب نفسها ولن تغفل عنها، تتركها تبحث عن تماسكها وتستمتع بمعركتها مع الحياة.
قد تجيب القاصّة عن بعض من هذه الأسئلة في عنوان كتابها الذي اختارته وهو «أقواس ونوافذ» كأن القاصّة لا تحتاج إلى قوس واحد ولا إلى نافذة واحدة، بل أقواس ونوافذ لتوسّع من مجال إطلالتها على العوالم الفسيحة والفضاءات الواسعة.. وقد قال أحد الحكماء: «مهما كان القصر فسيحاً نحتاج نافذة نطلّ منها على الخارج».
وللقوس دلالات شتّى يحدث أن تفتح قوساً في حديث عادي لتقل شيئاً استثنائياً وشيمة استثنائية تملّ الحياة النمطية لذلك يبدو أنها ستجعل قصصها أقواساً لتقول ما هو استثنائي.. وقد تقصد بالأقواس تلك الأسلحة القديمة التي تحتاج إلى سهام لتوجّه إلى صدور الأعداء ومبدعتنا تجعل من قصصها أقواساً ومن أقلامها سهاماً تكتب فتوجه سهامها إلى أعداء الحياة, وقد تقصد بالأقواس أنصاف الدائرة التي تكون جزءاً من المعمار العربي الإسلامي وربما هي كذلك تكتب لتصنع معماراً قصصياً خاصاً بها.
الخط الأفقي تجاه المجتمع:
تصنع شيمة من قصصها خطّاً أفقياً، يؤدي إلى المجتمع لتلتقط سلبياته مثل النفاق ص 12، الغرور ص 18، البيروقراطية ص 47، العنف ص 50، الطبقية ص 40, وهي بذلك تبرز قيمة الكتابة من حيث تكسبها وظيفتها، عندما تحوّل قلمها إلى مشرط تفقأ به دمامل المجتمع، وعند توظيف قصصها للنقد الاجتماعي هي لا تقدم حلولاً وليست مطالبة بذلك؛ فدورها يتوقف في الإشارة إلى الأزمات والمشاكل والعيوب, وتقدمها وفق نص أدبي ينشد الجمال، وهي بذلك تؤكد على الدور الحقيقي للكاتب.
الخط العمودي:
لا تنغلق القاصة على المجتمع لا تحصر نفسها داخل علبته وإنما تحوّل قصصها إلى سلّماً يتجه عمودياً إلى فكرة مطلقة، ومثال أعلى، وقيمة مجرّدة وأجد الكاتبة في قصصها طفلة حالمة، وصبيّة عاشقة وامرأة رهيفة وسيدة تملك كل أسئلتها الحائرة التي تدل على أن هنا إنسان يفكر، أجدها تبحث عن الحلم ص 67 ويشغلها العبث ص 49 ويهزها الأمل ص 48 وتهفو إلى الحرية 43 وتتساءل عن الحقيقة ص 37 . إنها تؤكد أنها امرأة تكتب لا لتكون عابرة داخل قصصها وإنما لتكون صاحبة موقف وحمّالة أسئلة وباحثة عن الحقيقة ومعبّرة عن فكر.
التجديد:
أهم ما لفت انتباهي في القصة القصيرة جداً التي تكتبها شيمة الشمري أنها لا تقلّد الآخرين وإنما تحاول أن تخلّف بصمتها في الكتابة عندما تسعى أن تضيف للقصة القصيرة جداً التي تنحتها، من ذلك مثلاً: ص60, وص 61 أنها تقدم القصة الواحدة وهي تحمل إمكانية أن تُقرأ بطريقتين إما - بالشكل المعتاد - يعني تبدأ من السطر الأول إلى آخره, والقارئ إما أنه ينطلق من آخر السطر في اتجاه تصاعدي إلى أول السطر وفي الحالتين أنت ستكتشف أنك تقرأ قصتين مختلفتين بمجرد تغيير التصوّر بشكل عكسي يجعلك في كل مرة أمام قصة مغايرة عن الأخرى، بل الطريف إن القصتين متناقضتان في المعنى.. إنهما بعنوانين, ولعل هذه المحاولة من المبدعة تجعلها مبتكرة داخل فضاء القصة القصيرة جداً.
التقنية:
تتوزع القصص القصيرة جداً لشيمة بين السطر الواحد والعشرة أسطر, ويبدو أن القصة عند الكاتبة هي التي تقترح عدد سطورها حسب طبيعة الموضوع الذي ستلتقطه.. أقول هذا لأني لا أشعر أن القصة القصيرة جداً التي تقدمها القاصة في سطر واحد تستوفي غرضها في تلك الكلمات المحدودة جداً، ولا تحتاج أن تتعسّف عليها الكاتبة وترغمها على قبول أكثر من تلك الكلمات المحدودة، مثال في قصة «جذب» ص 31 .. وهناك قصص في أكثر من سطر وتكاد تصل إلى العشرة أسطر لا تبدو أنها سقطت في الإسهاب، ولا في الثرثرة الزائدة.. إضافة إلى عدم سقوطها في المباشرتية والسطحية، مثال قصة «نجاة» ص 52.
وتختار المبدعة لقصصها أشكالاً تقنية مختلفة هي قد تُخبئ مفاجأة في خاتمتها تعصف فيها بانتظارات القارئ كما في قصة «بتر» ص 44، كما تعتمد على تقنية السخرية والتي تحوّلها إلى سخرية سوداء تعكس رفضها الشديد للظواهر الفاسدة في الواقع أو لتندد بالقيم الأخلاقية المتهرئة، وبالشخصيات السلبية في المجتمع، مثال قصة «جهل» ص 41.
أيضاً يمكن أن تعتمد شيمة على المفارقة خصوصاً عندما تريد أن تشير إلى تعارُّض بين شيئين متناقضين.. ولعلّ هذا التنوع في اعتماد تقنيات مختلفة يكشف قدرات عند القاصة شيمة بموهبة حقيقية تؤهلها لتكون مميزة في مجال القصة القصيرة جداً في الخليج والعالم العربي، ولها بصمتها الأدبية الخاصة بها، وتبدو واعية بالعملية الإبداعية في أدب القصة القصيرة جداً لذلك تجتهد من أجل إجادتها وفق شروطها الأدبية وتسعى أن تضيف لها من موهبتها وروحها، وفي كل ذلك فإن القاصّة شيمة الشمري موهبة إبداعية تستحق الاهتمام.
تونس