(إن فائض القيمة من عمل المنظمات غير الحكومية لا ينبغي أن يحسب بالمردود العادي، أي ما تقوم به من خدمات مادية، بل بدورها في دمقرطة المجتمع)) هكذا يختم الكاتب والمفكر المغربي علي أومليل كتابه الجديد «سؤال الثقافة، الثقافة العربية في عالم متحول» الصادر عن المركز الثقافي العربي عام 2011 في 157 صفحة كطبعة أولى، وسؤال الثقافة كما يقدم له الكاتب يبدأ من حيث ما انتهى إليه الحديث عن الثقافة في العقود الثلاثة الأخيرة، لأن العالم خلال هذه الفترة القصيرة قد شهد من التحولات ما لم يعرفه من قبل لا من حيث نوعيتها وسرعتها ولا من حيث كثافتها.
الكتاب الذي ينفصل إلى ستة فصول، يشتغل في أكبر مساحاته على الليبراليين الجدد والقيمة الثقافية كفصل أول، يخوض فيه الكاتب عدة خطوط من التعليم والتربية إلى الثقافة والهوية، مرورًا بطرح «أطروحات» فيبر وفوكوياما، ينبه أومليل القارئ العربي إلى أن المطالبة في التعليم التي اقتصرت على مفهوم المدرسة نقيض الأمية، حول التعليم من وسيلة تنشر الديموقراطية إلى وسيلة تكرس وضعًا غير ديموقراطي، وهو في هذا يشير إلى التفاوت بين رداءة التعليم العام وبين حداثة التعليم الخاص، كتفاوت جدد الطبقية وتوارث السلطة والثروة، فالتعليم على هذا الشكل كان إسهامًا في جعل الحداثة شأن أقلية مجتمعية بدل من أن يكون وسيلة للتربية العمومية للحداثة.
يعرج أومليل على التربية في فلسفة الأنوار، كيف أنها تربية على الحرية، حرية الفرد أساسًا، وتخليصًا للعقول من سيطرة التراث، بينما كانت التربية عند الإصلاحيين العرب هي مجرد إثبات لذات المجتمع الثقافية تجاه الآخر، وبالرغم من أن فكرة التربية كحالة دفاع كانت تحت شعور الإصلاحيين بأن المجتمع تحت الضغط الخارجي بشكله الاستعماري، إلا أن الكاتب يلفت القارئ إلى أن هذه التربية التي كانت تأهيلاً للمواطن على الاستقلال بدلاً من التربية على الحرية الفردية، تحوّلت بسهولة على يد الأنظمة الدكتاتورية من وظيفة تربية إلى قولبة إيديولوجية ((مفهوم الحرية «وهي مبدأ الفردانية» كانت من مطالب الحركات الوطنية إبان فترة الاستعمار، إلا أنها كانت تعني حرية الوطن واستقلاله قبل أن تعني حرية الفرد. فتحرير الفرد ملحق بتحرير الوطن)).
يؤكد أومليل مرارًا أن الليبرالية كلٌ متكاملٌ، لكن الليبراليون العرب يطالبون بحرية المبادرة الاقتصادية مفصولة عن منظومة الحريات، فلا يعرف لهم رصيدًا في الدفاع عن الحريات المدنية والسياسية أو نضالاً من أجل دولة المؤسسات، مايعني أن الفراغ الكبير في البلاد العربية بحاجة إلى حركة ليبرالية حقيقية ومتكاملة الفلسفة والمواقف.
يسلّط الكاتب أضواءه على المسألة الثقافية في ثاني الفصول، مركزًا على الحوار ومعاني الديموقراطية وإشكالياتها، ومجموع التحديات التي تواجه الدولة الوطنية، ليؤكد أن الثقافة تعني مبادئ السياسة الاقتصادية، أهداف التربية والتعليم، وقواعد العمل السياسي. وتحت عنوان الثقافة العربية في عالم متحول كثالث الفصول، تحضر المسألة الدينية، التي يطرح فيها الكاتب قضية المرأة كمثال أساسي لكونها تشكل الخلاف الأعمق والأوضح، مؤكدًا أن تاريخ تحرير المرأة العربية اقتصر على حقها في التعليم، حيث سيمكنها من تربية أفضل لأبنائها، عدا عن أن حتى المطالبة برفع الحجاب لم تعن تقويض كل الحجابات التي تحول دون المساواة الكاملة بين النساء والرجال، منبهًا القارئ إلى أن موقفًا ليبراليًا «كيمين» قد يكون أكثر دفاعًا عن المساواة من موقف يساري يغرق تحرر المرأة في تحرر الإنسان من مجتمع طبقي، فلا ينظر لقضية المرأة على أنها نوعية قائمة بالذات.
في الفصل الرابع وبعنوان الحرية والعدالة، يشعل أومليل شموعه للإنسان العربي على توقيته الثوري ((لا يمكن أن تختزل الديموقراطية في عملية انتخابية. ذلك لأن نتيجة ما تسفر عنه صناديق الاقتراع ما هي سوى محصلة نوع الثقافة السياسية السائدة لدى أغلب المقترعين، فلنفترص أننا سنطرح لاستفتاء عام مهما كان حرًا وشفافًا، مسألة المساواة بين الرجل والمرأة في أي بلد عربي، فإنه ليس من المؤكد أن أنصار هذه المساواة سوف يفوزون ديموقراطيًا، لذا، فإنه لا بد للديموقراطية من مرجعية وهي قيم وحقوق الإنسان)).
علي أومليل الذي قدم للمكتبة العربية إضافات مهمة، ها هو يقدم أوراقه الثقافية التي تتداخل مع هموم وأحلام وطموح الإنسان العربي اليوم، يقدمها للقارئ العربي الذي يفتح حياته للأسئلة ولا يغلق نفسه على شعارات الحرية والحقوق دون بذل أي محاولة لفهمها.
من حوار الثقافات كفصل خامس إلى الفصل السادس والأخير بعنوان الدولة النامية والمجتمع المدني، يختم الكاتب بخلاصة القضية، أنها تتعلق بطبيعة الثقافة السياسية ((لم يُعدُّ كافيًا الرجوع إلى التعريف التقليدي للديموقراطية بأنها «حكم الشعب بالشعب» أولاً: لأن هذا التعريف يختزل الديموقراطية في العملية الانتخابية... وثانيًا: لأن التعريف يوقع في نوع من الشعبوية... أن صناديق الاقتراع إنما تعبر عن المتوسط العام لثقافة سياسية سائدة، ومن المحتمل جدًا أن تكون هذه الثقافة السائدة مخالفة لثقافة متشبعة بحقوق الإنسان)).
lamia.swm@gmail.com
الرياض