Culture Magazine Thursday  07/06/2012 G Issue 376
مداخلات
الخميس 17 ,رجب 1433   العدد  376
 
«الحق»... بين الإدراك والحس
عبدالإله بن سوداء

 

استمتعتُ بالحوار الذي أجرته «المجلة الثقافية» مع الدكتور محمد بن عوضة الأحمري في عددها رقم 373 الصادر يوم 19-6-1433هـ، وأثلج صدري أن سيكون الدكتورُ كاتباً أسبوعياً في هذه المجلة الثرية بكتابها ومواضيعها!

نعم نحتاج لعلماء طبيعيين من هذه البلاد المباركة يخاطبوننا باللغة التي نفهمها، ويقرّبون لنا القضايا العلمية المستغلقة، ويرفعون درجة وعينا بأهمية العلم التجريبي والطبيعي الذي نحن ننعم الآن بنتاجه في كافة النواحي الطبية والتقنية و...، ولعل مما شدني في الحوار إشارة الدكتور ل»نظرية الأوتار» أو «الأبعاد الأخرى» وكيف أنها تُثبتُ فيزيائياً ورياضياً وجود الخالق سبحانه كما تُثبتُ وجود العوالم الغيبية الأخرى! وبقدر ما لهذا الكلام من طمأنينة في قلوب المؤمنين إلا أن قدراً مقابلاً له يحفه الخطر وتعترضه المزالق والمهاوي، وينبغي أن يؤخذ بحذر وأن تُكبحَ فيه جماحاتُ الانبهار بالعلم ومكتشفاته.

إذ؛ هل القضايا الغيبية تثبتُ بالفيزياء والقوانين الرياضية؟ إذاً لو كان ذلك يصح لم تعد قضايا غيبية تُمتحنُ قلوب العباد بها، ولم يعد للإيمان بها مزية لأنها حين ذاك ستتحول إلى قضايا حسية مشاهدة، أو مفهومة بالمعادلات الرياضية الفيزيائية! كما أن اكتشاف الإنسان لها وتحديد (مواقع أبعادها) -بحسب نظرية الأوتار- يُشعر إنسان هذا الزمان بالتعالي مما يدفعه للغرور الوجودي، ولذلك؛ ينتفي قطعاً تمكينُ الخالق -سبحانه- لعباده أن يكتشفوا فيزيائياً وجودَ بعض العوالم الغيبية، فضلاً عن وجود الخالق.

الإيمان في جوهره: هو التصديق بوجود القضايا الغيبية التي لا ندركها بحواسنا أو (قوانيننا الرياضية) إلا في حالات محدودة لآحاد من الناس وبطريقة خارقة لنواميس الكون، ثم إذا كانت نظرية الأوتار تُثبتُ هذه العوالم الغيبية؛ فما المعادلة الفيزيائية لذلك؟ وهل صيغت هذه المعادلة أصلاً؟ وهل بالإمكان فعل ذلك؟ وإذا كان «ستيفن هوكينغ» (لم يحصل على جائزة نوبل) العالمُ الفذُ في مجال الفيزياء النظرية والكونية فشل في الوصول إلى «النظرية الموحِّدة العظمى» التي يُتَحَكّمُ من خلالها بالكون (بحسب تعبيره)؛ فهل بالإمكان التوصل إلى نظرية مدعمة بمعادلات رياضية تُثبتُ سبعة أبعاد أخرى في هذا الكون؟

لعل من الأسلم أن يُقال إن القضايا الغيبية لا يُتوصل إليها بالعلوم الطبيعية التجريبية، وحتى الآية التي استشهد بها الدكتور وهي: «سنريهم آياتنا في الآفاق» فإنها تُشير إلى آيات الله المشاهدة والمحسوسة بجميع أدوات الحس، ولم تُشر إلى شيء من القضايا الغيبية المعروفة، فلم يخبر الله أنه سيريهم ذاته المقدسة أو أحداً من ملائكته مثلاً، بل آيات القرآن تنعى على غير المؤمنين الذين يطالبون الرسل برؤيتهم لله أو ملائكته لكي يؤمنوا ويصدقوا، مما يدل على أنه لا يمكن إدراك القضايا الغيبية بالعلم التجريبي، ولا يمكن أيضا إيجاد معادلات فيزيائية تُثبتُ هذه القضايا، لأنها من مدركات العقل لا الحس، فابن الطفيل -مثلاً- في قصة «حي بن يقظان» أثبت من خلال قصته الخيالية أن العقل باستطاعته أن يصل إلى الخالق دون أي مؤثر بيئي أو اجتماعي أو ثقافي...، ولعل اشتغال «حي بن يقظان» بتشريح الحيوان في جزيرته المعزولة ثم انتقاله من العلوم الطبيعية التجريبية إلى العلوم الفلسفية والدينية يدل على أن مرتبة العقل أسمى من مرتبة الحس، فبالفلسفة(بمعناها التأملي) والدين توصل إلى خالق حكيم، بينما حين كان يُشرّح الحيوانات كانت معرفته بالخالق ناقصة، على أن المُحسّات لا ينبغي أن تتجرد من التأمل العقلي، لكن بعض العقول تتكبر أو تكل عن ذلك فلا يشفي غلتها غير المباشرة بالحس، و»المجتمع العلمي» في الغرب لا يُسيغُ إدخالَ اسم»الله» في المعمل!! ولا أدل على ذلك من صنيع «جورج سموت» (الحائز على جائزة نوبل 2006م)، إذ كان ثُلةٌ من العلماء والإعلاميين محتشدين في مقر «الجمعية الأمريكية للفيزياء» عام 1992م ليشاهدوا أقدم صورٍ قادمةٍ من أعمقِ أعماق الكون عبر التلسكوب الفضائي (كوب) والتي يعود تاريخها لأكثر من 13 مليار سنة ضوئية !! ويُعتقدُ أن قبل هذا التاريخ حصل الانفجار الكوني العظيم، فما كان من «جورج سموت» أمام هذا المشهد المهيب؛ إلا أن صرخ بين الحضور مندهشاً بما رأى فقال: «كأنني أرى وجهَ الله!!»، مما دفع بنصف الحضور لمغادرة صالة العرض احتجاجاً على إقحام اسم الله في وثيقة علمية!! وهذا يدل على أن كثيراً من العلماء الفيزيائيين والطبيعيين في الغرب لا يمزجون بين الفيزياء والفلسفة (بمعناها التأملي)، بل لا يعنيهم طرح سؤالٍ من قبيل: هل للكون من موجد وخالقٍ؟ ولماذا خلقه على هذه الكيفية؟ ونحو ذلك من الأسئلة،وقد كشف ذلك «ستيفين واينبرج» (حاصل على جائزة نوبل 1979م) في مقابلةٍ متلفزة حين قال: « إن بعض زملائي العلماء لا تعنيهم المسألة الدينية أصلاً حي ن إجراء بحوثهم العلمية واكتشافهم تعقيد الكون» !! إلا أنه أقرّ بوجود علماء من زملائه الفيزيائيين مؤمنين إيماناً راسخاً، ولهذا فالعلم التجريبي ليس بالضرورة من دوافع الإيمان، نعم.. قد يُعززُ إيمان المؤمن لكن إذا كان لإيمانه دِعامةٌ أصلاً، بخلاف التأمل العقلي المتجرد من كل المؤثرات، فإنه يوصل صاحبه بالضرورة إلى الحق، وقد جاء في القرآن الكريم التنبيه إلى ذلك في قوله تعالى: «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا» فأرشد إلى التحرر من «التفكير الجمعي» الذي يسلبُ الإنسان تفكيره وعقله الفطري، ذلك العقل الذي أوصل ابن الطفيل لاستنتاجاته في الوجود، وأوصل «ديكارت» أيضاً حين تجرّد من جميع المؤثرات وأعمل عقله؛ فقال مقولته الذائعة: «أنا أفكر إذاً أنا موجود» وتتلخص فكرته هذه في أن الإنسان مادام يفكر إذاً فهو موجود، وإذا كان موجوداً فإما أن يكون أوجد نفسه أو أوجده غيره، فإذا كان هو الذي أوجد نفسه فإن فيه عيوباً ونقائص لابد من تلافيها كي يصل إلى الكمال، ولكنه برغم شوقه إلى الكمال فإنه لا يستطيع تحقيقه، وما دام لا يستطيع تحقيقه فإنه عاجز ! وما دام عاجزاً عن تحقيق الكمال لنفسه فهو من باب أولى أشد عجزاً عن خلقه لنفسه، وإذاً؛ فقد خلقه غيره، وهذا الغير لابد أن يكون أكمل منه لأن الناقص لا يخلق ما هو أكمل منه ولا يمكن أيضاً أن يكون مماثلاً له، فلم يبق إذاً إلا المطلق وهو الواحد الخالق الأحد.

وديكارت في استنتاجه الرائع هذا يبرهن على قوة العقل البشري في إدراك الوجود الإلهي. إذاً؛ فالحس - ومنه العلم التجريبي الطبيعي الفيزيائي- مجردُ نافذة إلى العقل، وشأنه أصغر من أن يدرك القضايا الغيبية مجرداً من التأمل العقلي، بل قد يخون الإنسانَ تأمُلُهُ العقليُ إذا خالطه مؤثرٌ ما، كما خان «ستيفن هوكنغ» عقلُهُ، فقال قولته الجائرة: «إن الكون لا يحتاج إلى خالق وإنه قادر على تسيير نفسه بنفسه !» وصدق من قال إن (ستيفن هوكنغ) عالم كبير وفذ وعبقري في مجاله، لكنه بسيط إلى حد السذاجة في القضايا الفلسفية والوجودية والتأملية!

هذا فيما يتعلق بنظرية الأوتار، أما نظرية داروين فقد تفاجأتُ كما تفاجأ كثيرون من مباركة الدكتور محمد الأحمري للنظرية، فالذي أعلمه أن نظرية داروين ليست حقيقةً علميةً ملموسة، فهي تُدرّسُ في بعض الجامعات الغربية على أنها نظرية فحسب، وعلماء الأحياء لم يتفقوا على صحتها، وإذا صحت في جوانب فلا تصح -يقيناً- في جوانب أخرى، فأيُ قدرةٍ لخلية تطفو في مستنقعٍ آسن في الزمان السحيق على التطور المفاجئ ؟!! ومن أين للداروينية المحدثة أن شعاعاً من الفضاء اخترق هذه الخلية فأحدث طفرة فيها ثم تطورت إلى أن وصلت إلى أعلى السلم البيولوجي المتمثل في الإنسان؟!!

الغريب في الأمر أن بعض علماء الشريعة وخوفاً من أن تثبت النظرية مستقبلاً نجدهم يتخذون موقفاً من النظرية محايداً بل وملايناً كالقرضاوي في برنامجه «الشريعة والحياة» حين تحدث عن النظرية، وكرشيد رضا وعباس العقاد وحسين الجسر في القرن الماضي من خلال بعض كتاباتهم،وسبب موقفهم الملاين هذا أنهم لا يريدون أن يقعوا في مثل ما وقع فيه بعضُ أسلافهم العلماء في قضية كروية الأرض مثلاً،حين نعى صاحبُ «تفسير الجلالين» على من يقول بكرويتها شاهراً الآية الكريمة: «وإلى الأرض كيف سُطحت» في وجه من يقول بذلك!

لكنْ شتان بين هذه وتلك، فكروية الأرض لها دلائل من الحس حتى قبل العصر الحديث، فابن الطفيل في القرن السادس الهجري دلل على كروية الأرض في قصته السالفة الذكر، بينما لم يكن يخطر على بال أحد من القدماء قضية «تطور الإنسان البيولوجي»، وإحقاقاً للحق فإن هنالك علماء غربيين متخصصين في العلوم الطبيعية يرون خطأ نظرية داروين لا لكونها معارضة للنصوص الظاهرة في الكتب المقدسة، بل لكونها تعارض كشوف العلم اللاحقة للنظرية، ومنهم «فرانسيس كريك» مكتشف ال DNA ، فقد كان من معتنقي النظرية ثم تخلى عنها بعد اكتشافه هذا. بل من المؤكد أن داروين نفسه لو تنفّس به العمر عدة عقود؛ لرجع عن نظريته لاسيما بعد اكتشاف عدة علوم منها:علم الوراثة، وعلم الجينات، وعلم الأجنة، والفيزياء الحيوية، والكيمياء الحيوية، والاحتمال الرياضي. على أن الداروينيين المحدثين كانوا -ولازالوا- أشد تعصباً للنظرية من داروين نفسه!! وهذا واضح لكل من يتابع مكتشفات الأحافير وكيف أن مؤيدي النظرية يُجيِّرون تلك المكتشفات لصالح النظرية حتى لو كان ذلك على حساب الأمانة العلمية، وهارون يحيى (الباحث التركي) كشف في كتاباته عن النظرية مقدارَ التزوير العلمي في بعض المستحاثات والأحافير المكتشفة في القرن الماضي!!

والسؤال هنا لكل من انبهر بهذه النظرية هو: ماذا نتج عن النظرية حين صاغها عرّابُها داروين؟ وحين نشرها عام 1859م؟

لا جرم أنه نتج عنها نظرةٌ حيوانية للإنسان تحصره في مطالبه الجسدية فقط، وتغفل الجوانب الروحية والعقلية والمعرفية، ومن هنا صاغ (ماركس) و (انجلز) نظريتهما الاقتصادية، وكذلك (نيتشه) انطلق من داروين في صوغ فلسفته المتمثلة في الإنسان (السوبرمان) أو الإنسان المتفوق على نفسه، الإنسان الأعلى القوي الذي يسحق الضعفاء ويقتلهم لأنهم يعيقون مسيرته، بل دعا إلى قتل المعاقين والمرضى الميئوس منهم! حتى لا يبقى إلا العِرقُ الأقوى! كما أن داروين ألهم النازيين والفاشيين فيما بعد فارتكبوا مجازرهم بوحي منه وانطلاقا من نظرية (البقاء للأصلح) ، وألهمتْ نظريتُهُ -أيضا- العرق الأبيض التمييزَ العنصري ضد السود، على اعتبار أن السود كانوا بداية حلقة التطور الإنساني البيولوجي الذي اكتمل وتُوّج بطور «العرق الأبيض» .

وبعيداً عن الجدل العقيم الذي يتعلق بمدى صحة نظرية داروين من عدمها؛ فإنه يسكنني يقين أن الإنسان عقل لا جسد، وهذا العقل في حقيقته قبسٌ غيبي لا يمكن للمكتشفات الحديثة تشريحه، فالمخ آلة بيولوجية لكن العقل الذي يسكنها شيءٌ آخر!! ليس لداروين ولا لمؤيديه قدرةٌ على كشف كنهه والتحدث عن بدايات تكوينه إلا التخرص والرجم بالغيب، والإنسان وإن كان يتشابه في بعضٍ من أجهزته الجسمية مع بعض الحيوانات لكنه يتميز عنها كلها بذاته المتفكرة المتسائلة التي تطمح للكمال وتتطلبه، وهذا الكمال لا يكون بإشباع الحاجات المادية فقط ، بل يكون باستشعاره الحاجة لمعبودٍ يؤمن به ويعده القوة العظمى التي انبثق منها الكون (الانفجار العظيم) وإليه يعود(الانسحاق الشديد).

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة