لا تزعم هذه المقالة أنها تقدم فتحاً جديداً في النقد الأدبي أو أنها تسعى إلى إيجاد مقومات حديثة لها، بقدر ما تؤمن بأنها جاءت عرضاً لتقريب النقد الأدبي للقارئ الذي يسعى مجاهداً نفسه ومجاهداً ( فُتوةَ) النّقادِ في كتاباتهم النّقدية المليئة بالاستعراض الفكري.
إنّ النقد الأدبي يتجلى - في معظمه - متربعاً في أعلى قممه بعيداً كلّ البعد عن واقع الإبداع (شعراً أو نثراً أو رواية)، وهو يتسامى بنظرياته المتنوعة عن فهم القارئ العادي، بل قد يتجاوز ذلك إلى عدم فهم بعض أهل الاختصاص، فتجد الناقد يتبنى نظرية نقدية، ويجعلها مهبط وحيه، ومسلك تنظيره، متغاضياً عن نظريات أُخر، لها نصيب الأسد عند غيره، وهذا الذي هو غيره يسعى مثله بحثاً عن إثبات ذاته بوهم المعرفة المتميزة وخصوصيتها، ولا شك أنّ تبني نظرية ما، والتخصص فيها مع عدم إهمال النظريات الأخرى، هو أمر محمود في ذاته.
إنّ ما تسعى هذه المقالة إلى إبرازه هو أن يتوهم الناقد وهماً أبدياً أنه الأول في ذلك. وأنه المبرّز في وعيه بنظرية ما، وأنه حقيق دون سواه بها. وهو مع ذلك - حين يقف أحياناً أمام نص إبداعي - يسعى إلى استحضار التصورات المسبقة، والأفكار المستوردة تأييداً لما يذهب إليه دون البحث عن القيم الفنية التي ينبني عليها النص الأدبي، ويسعى - من جهة أخرى - إلى استخدام لغة نقدية غير مفهومة تنحو إلى تغريب النقد وتجهيل القارئ، ولو سعى إلى الكتابة بلغة يفهمها القارئ العادي، وانطلق من (الوعي النقدي) دون استجلاب لنظرية ما، واستغنى عن اشتقاق المصطلحات الخاصة به لوجد لبضاعته سوقاً رائجة غير كاسدة، وجمهوراً واسعاً يثق به، وينافح عن مقولاته. غير أنّ واقع النقد الأدبي يعكس غير ذلك، فالناقد يسعى بكل ما أوتي من معرفة - تلقفها من الآخر/ الغربي - إلى استعراض عضلاته الفكرية، فيردد ما قاله الآخرون إن صدقاً وإن كذباً إثباتاً لذاته واحتقاراً لغيره.
وعلى هذا فسأعرض هنا على نقاط أتصور أنّ وجودها مهم لمن شاء أن يدخل إلى النقد الأدبي بوعي جيد:
1- أن يسعى الناقد إلى تقريب النقد من القارئ العادي.
2- أن يكتب بلغة يفهمها الناقد المختص فلا تنقص من قدرة، ويبلغها القارئ العادي فتعلي من شأنه.
3- أن يسعى جاهدا إلى نبذ النظرية، وأن ينطلق من الوعي النقدي.
4- ألا يخضع النص إلى تصورات سابقة، وأفكار يسعى على تأييدها بمقولات نقدية مستوردة.
5- أن يبحث عن القيم الفنية دون السعي إلى التنظير فقط.
6- أن يتخلى عن المصطلحات النقدية التي تأتي استعراضاً دون وعي، وأن يجهد إلى البحث عن مصطلحات نقدية تفي بالغرض.
بين البنيوية والتفكيكية
في خضم كم هائل من المصطلحات النقدية التي تنبش من التراث وإن كانت قليلة وغير عميقة، وبخاصة ما يتعلق منها ببعض علوم البلاغة، البديع نموذجا، أو التي تفد إلينا من الغرب ممزوجة بعمق إنساني وتفكير ناضج - النظرية مثلا -. فإن الحديث عن المصطلح النقدي يظل شائكا وصعبا، وبما أن هذا الحضور يلزم القارئ أن يتأمل وأن يتدارس وأن يتذاكر هذه المصطلحات الغربية على وجه التحديد، فإنه بات لزاما علينا أن نبحث عن تقريبها إلى العقل الناقد لكي يتمكن من أن يطبقها على أرض الإبداع الشعري والسردي.
من هذه المصطلحات تأتي البنيوية والتفكيكية من أهمها حضورا وتفاعلا على مستوى النقد العربي، وحين نأتي على مصادرها فإن ذلك لا تفي به مقالة عابرة تأتي للتقريب دون الرصد، وتدلي بدلوها للتوصيل لا التفصيل. ومن هذا فإن مقارنة سهلة تصل بنا إلى نوع من تحديد المسافة الفاصلة بين هذين المصطلحين المهمين.
البنيوية:
النص في البنوية هو نص مستقل قائم بذاته، وعلى هذا المعنى فهي تستبعد أي شيء خارجه سواء كان ذلك أفكارا أو ملابسات أو مؤثرات، ولذا فإن النص بالنسبة لها مغلق ونهائي غير مفتوح، ومن ثمّ يكون تفسيره مغلقا ونهائيا. إن النص يكون بعد الانتهاء منه رسالة مغلقة على نفسها وتنغلق بعيداً عن كاتبها ومتلقيها؛، لذا تنبع التأويلات من النص لا من غيره. فالسلطة تكون للنص، وكل التأويلات والتفسيرات منبعها منه فقط.
إن النص عند البنيوية هو نص مركزي ثابت، وحوله تدور التأويلات والتحليلات. فهو متناسق ومنسجم يخضع لنظام ضابط له وقائم عليه، لذا كان لزاماً على الناقد البنيوي البحث عن ذلك النظام والسعي للكشف عن «شفرة» النص وأنساقه، وإن تمكن من ذلك أدرك أبعاده.
إن النص عند البنيوية يحكمه نظام منسجم. وهو يتحول عندها إلى رموز ودلالات، تسعى إلى كشفها وإبرازها، وتحاول أن توفق بين المتناقضات والمتضادات التي يقوم عليها، وتقوم هذه الموافقة على دراسة مستويات مختلفة داخل النص : نحوية، وإيقاعية، وأسلوبية، وتركيبية؛ ولاكتشاف بنيته لا بد من التركيز على هذه الظواهر الأسلوبية فيه. إن العمل الأدبي عبارة عن بنية متكاملة من خلال العلاقات بين مفرداته.
إذن فالمنهج البنيوي منهج تحليلي، ليس تقويمي يقدم أحكاما، فهو لا يهتم بشرح العمل الأدبي، ولا يقدم حكما يبين قيمته الفنية؛ إنه منهج لا يبني على أي مرجعيات سابقة بل هو يتخذ من اللغة سبيلا وحيدا للكشف عن النص، وقد بيَّن رولان بارت مهمة الناقد البنيوي بأنه ليس مكلف بكشف الحقائق أو اكتشاف سر من الأسرار؛ بل عليه أن ينظر للغة النص ومستوياته فقط.
التفكيكية:
تأتي التفكيكية مرحلة لاحقة للبنيوية، بل إنها تمثل رد فعل لها فكانت نقضاً لها، ومن هنا تسمى (التقويضية). بدأت منذ نهاية الستينات من القرن العشرين، وتمثل مرحلة ما بعد البنيوية كما تعد امتداداً لها وخروجاً عليها في الوقت نفسه، ورائدها «جاك دريدا»، وبشكل عام فإن النقد التفكيكي هو مقاربة فلسفية للنصوص أكثر منه مقاربة أدبية، إنه منهج في القراءة، وبذلك تكون السلطة فيه للقارئ، وكل ما قيل سابقاً عن البنيوية ينسفه التفكيك. وأهم أفكارها حول النص أنها شككت في كافة المرجعيات إذ مات في ظلها المؤلف واللغة وكل ما يدور حول النص ولم يتبق إلا القراءة. لأنّ النص غير منسجم ولا متناسق، ومن هنا فهي تخالف البنيوية، فهي تنزع إلى أن النص متنافر ومتفكك. ومن ثم يأتي غياب المركز الثابت للنص، وهذا جوهر التفكيك الذي نادى به دريدا. وغياب مركزية النص يؤدي بنا إلى نص مفتوح غير نهائي.
إن لكل قارئ في التفكيكية أن يفسر العمل الأدبي بطريقته الخاصة، ولا يقتصر على ذلك فحسب، بل ينتجه ويعيد كتابته، وكل قراءة تختلف عما قبلها، أو هي قراءة أخرى. وتأتي قيمة النص عند التفكيكية مرتبطة بوجود القارئ؛ لأنه الذي يحدد دلالته، لذا نجد القراءة التفكيكية تبدأ من أي جزء من أجزاء النص، فالقراءة ضربٌ من الإبداع، والقارئ هو الذي يعطي النص معناه. وعليه يكون التشكيك في إيجاد علاقة ثابتة بين الدال (النص) والمدلول (القراءة)، لأن القراءة متعددة ومختلفة باختلاف القارئ، ويحاول دريدا زعزعتها بردها إلى فضاء الاختلاف ويتم جراء ذلك تفتيت كل خطاب جاهز. وبهذا يكتسب المدلول حرية مطلقة، مما يتيح للقارئ أن يفسر العلامات بالمعنى الذي يشاء. ومن خلال التشكيك بين الدال والمدلول ظهرت أفكار ومصطلحات يمكن إدراجها في خارطة التفكيكية ومنظومتها النقدية لعل من أبرزها التأجيل، فكرة الكتابة، فكرة الغياب والحضور... وغيرها.
بريدة