حينما يحيط الإنسان ذاته بدوائر العزلة وأسوار الانكفاء، وينأى عن مدّ خطوط التثاقف مع الأصوات المغايرة، فإنه سيفوت كثيراً من الفرص التى تمكنه من معايشة تطورات الفكر وصيرورة المعرفة، وسيحرم عقله من معاينة زحم كمي من الحقائق المثرية التي الفرد بحاجة ماسة لها، وخصوصاً إذا كانت متبنياته المختزنة في الذاكرة تنطوي على الضئيل من المنطقية، ويتعذر عليه إدراك أَوْجُه وَهنِها في ظل تلبسه بحالة حادة من الانكفاء الثقافي. تلك الحالة الانكفائية ووجهت بعاصفة من التنديد من الوحي في مستوييه: الظاهر والباطن، وذلك عبر إدانة ذلك المنحى الأبوي الذي يلغي جراءه المرء عقله معتمداً على سلفه ومكتفياً بما توصلوا له من قناعات. الانكفاء على الذات يعني تهميش عمل العقل وتدني كفاءته وتراجع مستوى أدائه والحكم عليه بالانغلاق؛ فأبوابه مؤصدة, وبينه وبين الغير مسافات ضوئية وحواجز معيقة تمنعه عن التفاعل الإيجابي المثمر. إنه بذلك يعيش العصر، لكنه لا يعايش حقيقة تمظهرات إيقاعاته اللحظوية؛ فهو وإن حضر فليس إلا من قبيل الحضور الرقمي المجوف والفاقد لحقيقته على صعيد المعنى! إن سجن الذات وفرض الحصار عليها وكبتها وعرقلة انطلاقتها ليس إلا ضرباً من الجهل المركب الذي يوهم ذويه بالاكتفاء الحادي إلى الانكفاء حتى يخال المرء أن الحقيقة المطلقة محصورة بين دفتي جعبته وترفل بين جوانحه، وأن ما يعتنقه من أفكار ليست إلا السقف الأعلى للمعرفة؛ لذا فهو لا يجد ذاته معنياً بالبحث والتمحيص وتقليب الآراء والموازنة والمقارنة! العقل المنغلق يفتقد للشجاعة في الدخول في المشاريع الحوارية؛ فهو جبان، يخشى الإنصات لرأي آخر؛ لأن الانفتاح على المخالف قد يعري فكرته ويكشف عوارها البنيوي، ومن ثم يضطر لتغيير رأيه، وهذا هو ما لا يُراد. وقديماً نقل عن الفيلسوف اليوناني أرسطو قوله: الجاهل يؤكد والعاقل يتروى والعالم يشك. وهذا أمر تقرره شواهد الواقع، وتشهد به وقائع الأيام حيث المنكفئ لا يخطر في ذهنه مراجعة حساباته وابتلاء منهجيته والتوقف لحظات للتأمل ومكاشفة الأنا؛ فهو غارق في هامش الحياة ومستغرق في سفاسفها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو لا يملك الجرأة على التغيير؛ لأن محاسبة الأنا ومحاورتها يترتب عليهما إصلاح خللها، بمعنى الانتقال من وضعية إلى أخرى أعلى وأكمل، وهذا شأن له عزيز وله تبعاته التي ليس كلٌ مؤهل لتحملها.
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة