جلدونا إلى درجة الإعياء، تحت سياط نكراننا للجميل، وتمرّدنا على المانحين، وذمّنا للواهبين المنعمين، وتطاولنا تطاول العائل المستكبر؛ قالو لنا: أنتم تكرهون وتذمون، من ألبسكم أجمل الثياب، وأركبكم فارهات المراكب، وكيف غرفكم، تدفئة وتبريداً، أنارها لكم، وأرقدكم على الفرش الوثيرة، وأجلسكم على المقاعد المريحة، عالج أسقامكم، وعلّم أبناءكم، وآتاكم من كل ما تشتهون وتحبون.
إنه الغرب: هذا السيد الذي تذمونه وتزدرونه، وقد أنعم عليكم بكل هذه النعم الوفيرة، ثم أنتم لا تردون له مقابل كل ذلك، إلا الكراهية المرة، والتعالي المستكبر، والسباب والشتائم، تكيلون له أقبح الهجاء، صباحاً ومساءً، وفي كل حين، وتبغضونه بكل هذا الحقد الدفين، إن ما تفعلونه كما قال هؤلاء الجالدون لذواتنا، إن هو إلا سوء طبع تشرَّب دخائلكم، وعمى في الرؤية يتملّككم، وإنها لحالة - كما قالوا - تثير العجب وتبعث على التقزز والغثيان.
وصمونا بكل ذلك وأشد منه وأشنع.. وكان آخر هؤلاء المرددين لهذه الأسطوانة المكرورة، التي ألفناها وحفظناها من كثر ما سمعناها، هو الأستاذ وائل القاسم، في مقاله المنشور في الثقافية، العدد 374 تاريخ 3-7-1433هـ، والذي ختمه بعد تلك المقدمات المنطقية المفحمة التي عدّدها، طارحاً سؤالين استنكاريين، أجاب عليهما إجابة أوجعتني كثيراً، واستجابة لهذا الوجع، سوف أقف عند الإجابتين وحدهما، لكي لا يستطيل عليكم حديثي، ولكي أقف محتجاً ومناقشاً إذا كان يحق لنا نحن القراء، الاحتجاج على ما يوجعنا، وإذا أذنت لنا "الثقافية" أن نناقش أصحاب الأقلام الكبيرة.
لقد تساءل الأستاذ وائل مستنكراً وهو يقول: (ماذا قدّمنا للبشرية حتى نتعالى عليهم؟.. وأجاب على سؤاله: بأن لا شيء.. أي أننا لم نقدم شيئاً ثم تساءل - عفا الله عنه - ثانية عماذا قدموا لنا؟ وكان الجواب: قدموا كل شيء.
وأنا - وأعوذ بالله من الأنا - بصفتي من الراغبين بالانضمام إلى منتدى المتطرفين، إذا كان ما يؤهلني لهذا الانضمام هو ذمّ الغرب ومسبّتهم والنفور منهم، لأكون بذلك كوارد وصف الأستاذ وائل للدكتور المتطرف، الذي جلس بجواره في أحد المجالس، والذي انهال على الغربيين سباً بإسهاب كما يقول، وراح ينهش لحوم القوم ويزدريهم ويضخم سلبياتهم ويتجاهل إيجابياتهم، - بهذه الصفة المتطرفة سوف أرد على الأخ وائل - وأقول ابتداءً: لقد سبقك لهذا التساؤل الإنكاري مستر دبليو بوش، عندما رسم علامة استفهام احتار نعوم تشومسكي بتقدير حجمها حينما قال: لماذا يكرهوننا؟! وإن ما هو أشد عجباً من كراهيتنا للغرب، هو أن يصدر هذا التساؤل والاستغراب بهذا الحجم وبهذه الثقة، من مثقف مثلك، كما ويصدر أيضاً عن رئيس دولة عظيمة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، - وفقها الله إلى الخير والسداد - ولا تعجب من دعائي لها لأنني من قوم لا يريدون بها ولا بالعالم أجمع إلا هذا الخير وهذا السداد - ولكنني أعجب من هذا التساؤل الذي يصدر منكما أنت وبوش، متناسين كل ما فعلته وما زالت تفعله، دول الغرب ومنها وعلى رأسها أمريكا، وبإصرار وترصد مفضوح جهاراً نهاراً، منذ ما يزيد على قرن من الزمان، بل ومن قبل هذا التاريخ، ولكنني أردت تحديد هذا الزمن لتكون الدول التي تشير إليها نقاشاتنا، دولاً قائمة لا تزال تحتل الصدارة ذاتها، قوة وعظمة وتحكُّماً غير منازع، غاضّين الطرف عما كان في سالف الأزمان، من حروب صليبية ومحاكم تفتيش واستعمار متطاول لعدة قرون، وتاريخ يخجل منه الحس الإنساني، ويعجز مقترفوه عن محو عار ممارساتهم وتبريرها، إلا بما تبيحه لهم الداروينية المتوحشة، التي تقول، بأن القوة هي الشرعية المطلقة، التي تخوّل صاحبها أن يحصل على كل ما يريد؛ وبأية طريقة تمكنه من ذلك، متجاوزاً في هذا السبيل، أي تأثير لتأنيب الضمائر، يستند إلى مفهوم الرحمة والشفقة.
بذلك استعبدت شعوب عريضة على هذا الكوكب، أكلت ثرواتها، وسُخرت مقدراتها، لصالح هذا المتوحش الغربي، الهمجي ممارسة والمتنمق ثقافة.
لقد اقترف الغرب إجراماً وإرهاباً، استباح به كل دم وعرض ومال، كما هي حال العراق الذي احتل تحت طائلة حشد من الأكاذيب الملفقة، والذي لا تزال جراحه حية تنزف دماً عبيطاً، أو كان تآمراً وإسناداً وعوناً وبإصرار فج، على تشريد وقتل ونهب ديار وبيوت وبساتين الفلسطينين، منذ أكثر من ستين عاماً، والغرب يطلق يد الحقد اليهودي، الذي لا يكف عن ترسيخ احتلاله وبأية طريقة يختارها، من التقتيل والسجون والتجويع والحصار والتشريد وهذا الغرب يحمي ظهر المجرم ويبارك أفعاله.
فهل تكون كل هذه الأفعال عاجزة يا أستاذ وائل عن زرع الكراهية في قلوبنا وقلوب كل أحرار العالم، وفي كل نفس كريمة تدعوها فطرتها الإنسانية، للنفور من البغي ومن الظلم والإجرام.
نحن نكره الغرب ونذمه على أفعاله هذه ، لكننا لا نكرهه لجنسه أو لونه أو دينه ، وهذا معلوم عندك علم اليقين، لأنه من صميم ثقافتنا التي تعرفها.
وأنا هنا لكي أذكرك بما نقدمه للغرب، لا أريد أن أردد ما أجهدتم أنفسكم وأقلامكم للتشكيك به، مما يُقال من إسهام عربي أفاد الغرب ببناء حضارته الباذخة بمنتجاتها العظيمة ، بل كل ما أريد أن أقوله هنا وأذكر به، هو هذه الطاقة البترولية التي ينعم بها الغرب، والتي لولاها لتوقفت كل هذه المنتجات التي تعيرنا بها ، إن ثروتنا البترولية وإن كانت ليست من مخترعات عقولنا إلا أنها ملكنا وهبنا الله إياها فلم نمن عليهم ولم نعيرهم بها. وهي أي البترول - ومهما سوف تقوله بأنه سلعة مدفوعة الثمن، أو تقول بأن الغرب هو الذي حولها إلى نعمة علينا - مهما تقول هذا أو ما يماثله، فهو لا يغير من كوننا نقف في الموقع الذي أفاد الغرب، وحرّك آلته الإنتاجية، وبذلك فنحن وبلادنا مفيدون للغرب، كما هو مفيد لنا. ولكن تعال معي يا أخ وائل لنقارن ونرى، كيف هي ردودنا متفاوتة وكيف هي إساءاتنا متباينة، تجاه بعضنا البعض ، نحن وإياهم.
إن ذمّنا للغرب على شنيع أفعاله التي تراها، والتي لا تحتاج إلى من يدلل عليها ، والتي يوقعونها علينا وعلى غيرنا، وعلى كل من لا ينحني لجبروتهم وتسلطهم، نحن نسيء للغرب بهذا الذم الذي يستحقه ، وبالكراهية التي زرعها وسقاها بجرائمه، حتى تجذرت في دخائل النفوس ، وهذا كله لا يعدو أن يكون (كلاماً يطير في الهواء) كما يُقال ، وهذه الكراهية وهذا السباب هو كل ردودنا السلبية المبررة ، يقابلها سلبيات الطرف الآخر وردوده مقابل خيراتنا ، التي تتمثل كما أسلفنا بالحروب والتقتيل والاحتلال والاستعمار وتمزيق وحدة الأوطان، والامتهان لنا والنظرة الدونية إلينا، والتآمر الذي لم ينقطع تواصله منذ سايكس بيكو، وإلى حرب العراق، مروراً بفلسطين المهيضة الجناح ، فهل إساءاتهم هذه تقابل كراهيتنا وسبابنا ، ثم كذلك هل طاقة البترول التي نمدهم بها تقابل منتجاتهم الاستهلاكية، التي يمدوننا بها لا من أجلنا بل لكوننا سوقاً تحرك اقتصادهم ، فهم لا يعرفون أن يعطوا لوجه الله وليس لهم صاحب.
أضع هذه الرؤية أمامك، وأسأل بها ضميرك وإنسانيتك المتجردة من الهوى يا أخ وائل ، أيُّنا أكثر إنسانية وأقل وحشية وحيوانية؟!.
Twitter:@Solimanalateeq
حائل