يختلفُ الصيف المقبل هذا العام عن كل صيف مضى، فمع أننا اعتدنا على أزمة جديدة تضرب بالعالم مع كل صيف جديد إلا أن صيف هذا العام سيكون هو صيف الأزمات المتعددة. ومن الصعب حتى المرور بعناوينها لكثرتها، ولكن ما يهمنا بالدرجة الأولى هنا هو الشأن الثقافي، ويأتي (الكتاب) وصناعته في رأس قائمة الشؤون التي يهتم بها كل مثقف. وقد استقر الأمر في السنوات العشر الأخيرة على (بيروت) كمركز لصناعة الكتاب العربي ونشره وتوزيعه، وقد حدثت طفرة في دور النشر البيروتية، بخاصة العريقة منها، تلك التي كانت منذ عشرات السنين وكل دار منها تصدر عشرة أو عشرين عنواناً في كلّ عام فأصبحت في السنوات الأخيرة تصدر أكثر من ذلك العدد في كل أسبوع!
وفي شهر يوليو من العام 2006 تعرضت مدينة بيروت لعدوان شرس وحرب نذلة من الجيش الإسرائيلي أوقف الحركة فيها تماماً، لأكثر من خمسة أسابيع، وتعرضت إحدى المطابع الكبرى لقصف مباشر ومقصود؛ ثم ما إن عادت الحياة لطبيعتها إلا وكانت صناعة الكتاب والنشر في أوج نشاطها وذروة ازدهارها لأن الكل من مختلف البلدان العربية كان متعاطفاً مع لبنان ومتفائلاً بصمود عاصمته وحكومته المنتخبة آنذاك رغم كل الأحزاب والأسباب المخرّبة التي حرّضت العدو على تكسير لبنان وقلب لبنان البيروتيّ الوديع..
أما ما يحدث الآن فشيء مختلف تماماً، والعاصمة اللبنانية في حالة تشبه السكون غير أنها تقع بين طرقات مشتعلة بكل ما للاشتعال من معنى، بخاصة الطرقات السورية وهي المنافذ الطبيعية للعبور من وإلى لبنان كله. والكتاب لا يكفي أن يكون مطبوعاً، فلا بد أن يصل عبر تلك الطرقات المشتعلة إلى حيث يريد مؤلفه الذي بات مؤخراً يقنع بمجرد وصول كتابه إلى يديه (!) وحتى ذلك بات متعذراً في الظروف الراهنة، إلاّ من خلال الشحن الجوّي باهظ التكلفة. وقد أخبرني أو أسرَّ لي صديقٌ عزيزٌ وهو مسؤول عن إحدى دور النشر اللبنانية أن الوضع محبط أكثر مما يتوقع أكثر المتشائمين، وأن الكتاب الصادر من بيروت سيتحول شيئاً فشيئاً إلى مجرد ذكريات، حتى وإن هدأت الأوضاع المتوترة، لأن جاذبية الكتاب في عمومها بدأت تخفت في هذه الأثناء، والجاذبية المعنية هنا ليست تلك التي في نظر القارئ وحده بل جاذبية الكتاب في نظر المؤلف أيضاً!.. ولم يحدث ذلك مع ظهور النشر الإلكتروني كما كنا نظن، بل (الإنترنت) بالمجمل من الوسائل التي ساهمت في الترويج للإصدارات الحديثة بشكل لافت ومدهش، غير أن الخفوت الذي حدث أو سيحدث ربما يكون مرده إلى أسباب تظهر هشاشة الفورة الأخيرة للكتب، فهي تبدأ من الإثارة وتنتهي بالتشهير الذي حل محل الشهرة وبات مطلباً لكثير من محبي الظهور بأي شكل كان (!) وقد جاء إلى متناول كل يدٍ طريقٌ جديدٌ يحقق هذا الهدف، وأعني مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) تحديداً، وأنا والله لا أعرف التعامل مع شيء منها حتى اللحظة!، ولكنّ ما أحدثته هذه المواقع (التجمّعية) من زوابع وعواصف وتغييرات سياسية وتربصات عقائدية واستفزازات ثقافية يثبت أنها الطريق الأقصر إلى تحقيق تلك الطموحات التي أثبتت أنها صلبة ثورياً كما أثبتت أنها الهشة أدبياً، كالتي سبق أن كانت سبباً في ازدهار صناعة الكتب ازدهاراً فرحنا به دون أن ندرك أنه مجرد طريق سيتوقف حينما يوجد طريقٌ أقصر..
ولنكن أكثر دقة في توصيف المسألة، فنعترف: هناك (غاية) كانت وسيلتها الأبرز (الكتاب) وتلك الغاية كانت مشتركة بين فريقين، فريق يكتب للوصول إليها وفريق يقرأ. وقد وجد الفريقان الآن، في مواقع التواصل الاجتماعي (وسيلة) أكثر سرعة وأغزر مادة وأسهل في الحصول عليها.. فانتهت لعبة الكتاب!
لذا، فقد اجتمع على الكتاب الآن قاضيان قضى كل منهما بحكمه على الكتاب المسكين، فقاض هو التوتر الأمني أو الحروب بين الشعوب والسلطات مما أدى إلى إقفال معظم الطرقات في وجه الكتاب، وقاض هو الهدف من الكتاب في نظر الأجيال التي تبحث عن الظهور والإثارة كيفما كانت، وبمواهب شبه معدومة، وقد وجدت ضالتها إلكترونياً بمنأى عن الكتاب ومشاكله وثقل حركته..
فلهذا كله أستطيع أن أقول: لو عدنا إلى تواريخ طباعة الكتب الصادرة في بيروت خلال السنوات الأخيرة باليوم والشهر سنجد أن معظمها قد تمت طباعته في فصل الصيف، لأن المؤلفين – الخليجيين تحديداً – يجدون فرصة في الصيف للذهاب إلى بيروت بهدف السياحة وإصدار الكتب بالمرة (!) وأستطيع أن أراهن أن هذا الصيف ستقلّ فيه الإصدارات كثيراً عن السنوات الماضية، والصيف الذي سيليه ستقلّ أكثر، وهذه بداية تدريجية لنهاية الكتاب المطبوع.. للأسف. وهذا ما سيظهر جلياً في دورات معارض الكتب القادمة، في العواصم العربية عموماً والخليجية خصوصاً، التي أرانا سنتذكر فيها الدورات السابقة ونصفها بالعصر الذهبيّ للكتاب، ونترحّم على ذلك الزمن الجميل..
ffnff69@hotmail.com
الرياض