(1)
بالكاد أذكر منظر الشاب الذي قُتل أمامي في صيدا. سقط على الأرض كما تسقط ورقة من كتاب، فيما القاتل، حينها، كان يفاخر بأنه تخلص من كافر، وأنه، ذاهب الى الجنة لا محالة. كنا في شهر رمضان وكانت المدينة في المنتصف، بين فوضى قبضايات التنظيم الشعبي الناصري ورائحة العطور العربية من النوع الرديء التي تفحُ من أجساد قبضايات الجماعة الإسلامية. قبل ذلك بقليل، كان اقتحام بلدة مغدوشة المسيحية، التي تشتهر بكروم العنب، من قبل عناصر من «حزب الله المليشيا - الشيعية» التي فبركتها الأيدي الإيرانية والسورية، قد تم وانتهى وسقط فيه أكثر من ألفي رجل من سكان مخيم عين الحلوة الفلسطيني وعناصر حزب الله الذين كانوا يضعون قلادات في رقابهم تحمل مفاتيح الجنة. ولغاية الآن لم أسمع أن للجنة مفاتيح سوى في نكتة رواها لي محمود درويش في طائرة أقلتنا من عمان الى باريس حيث نزلت، فيما، هو، استمر في الطريق الى المشفى الأمريكي حيث مات في وقت لاحق، بعدما، تضخمت الهموم في قلبه حتى انفجر موتاً.
كنا في المدرسة، نتحضر لامتحان في مادة الرياضيات التي ما زلت أكرهها، حين، في ذلك الوقت أيضاً. أغارت طائرات إسرائيلية وقصفت المقر الوحيد للجبهة الشعبية الذي كان بجوار المدرسة. لم نترك المدرسة، وقتها، التي كسر كل زجاجها وتمزقت جدران باحتها الخارجية. قال المدير إن الغارة انتهت وعلينا متابعة الدروس، كأن شيئاً لم يكن. حتى الجدار الذي يزين الباحة والذي تضرر جزئياً، لم ير منه شيئاً. المدير الأصلع بوجهه المستدير ورأسه المكورة كطابة ركبي، كان قاسياً لدرجة تجعل منه القسوة سيكلوباً بالنسبة للطفل الذي كنته. في الباحة، هناك حيث كنا نقضي الفرص بين الحصص. كما كنا أحياناً، نهرب من الدروس ونلتجئ إليها للعب كرة السلة. فيما كان الأساتذة والمدير معهم، لا يجرؤون على توجيه الأوامر لنا بالعودة لتلقي العلم، رغم أنه لم يلغ يوماً دراسياً ليظهر كشخص وقور أمام أسر الطلاب.
في ذلك اليوم، كان لنا فرصة مشاهدة حجم الدمار الذي تخلفه صواريخ الطائرات، وكيف تحيل الأبنية الى رمل. كأن شيئاً لم يكن. فعلاً، فالمبنى الذي كان يدار من قبل عناصر الجبهة الشعبية لم يبق منه شيء فيما العناصر، كانواً، في ذلك اليوم، قد تركوا المبنى قبل ساعات وجلسوا ينتظرون هدم الطائرات للمبنى من مكان قريب كأن هناك من أخبرهم.
بالكاد، أذكر ذلك الشاب، كنا خارجين من المدرسة وكان الشاب – القتيل – يحمل سيجارة بيده وكان على الأرجح من خارج المدينة، لا يعرفها ولا يعرف قوانينها. ساقه حظه السيء الى مواجهة عنصر الجماعة الإسلامية الذي لم يتردد، رغم الزحمة المختلطة في السوق بين نساء ورجال وأطفال الى جانب وقت خروج الطلبة من المدارس، من إشهار مسدسه الحربي وتفجير رأس الشاب بطلقة واحدة، هكذا أمام الجميع الذين لم تظهر عليهم علامات الإندهاش. فالمشهد، الذي رأيته حين كنت طفلاً، كان من عاديات الحياة اليومية في لبنان، فترة الحرب الأهلية. كما أننا، كأطفال، كنا، حين يأتي الطيران الحربي الإسرائيلي نخرج الى الطرقات ونركض لا هرباً منه بل لحاقاً بتلك الطائرات التي كانت تلمع وقتها في سماء المدينة، كأنها ألعاب، فيما كانت في كل مرة تجيء تحمل معها رائحة الموت والدمار. حتى حين، كان القتال يشتد أحياناً على جبهة جزين – كفر فالوس، كنا نخرج الى الطرقات فرحين بالخوف الذي كان يكبل أعناقنا ويسربلنا. أو حين كان يعنُ على بال أنطوان لحد أن يقصف المدينة بالمدافع الثقيلة. لم نختبئ يوماً من حرب أو قتال، ولم نتوقف عن اللعب في البستان أو القريب أو عن التدخين سراً بعيداً عن أعين أهالينا. الحرب كانت لعبتنا وكنا أبطالها حتى ببنادق خشبية كنا نصنعها بأنفسنا لمحاربة أطفال الحي المجاور.
(2)
الطائرات، أيضاً. كان يوماً عادياً ذلك اليوم. هدرت محركات الطائرات في سماء المدينة. أوقفنا لعبة كرة القدم. سارت الطابة وحدها دون أن ينتبه إليها أحد من اللاعبين حتى وقفت. ثم وكل واحد متسمر في مكانه، بدأنا نرفع رؤوسنا للبحث عن الطائرات في وجه الشمس. دقائق قليلة حتى هوت طائرة منها. ثم وبين الدخان الكثيف الذي غطى السماء خرجت مظلتان تحمل كل واحدة منهما طياراً، وافترقا. أحدهم ساقته الرياح الى بلدة المية ومية والآخر الى تلة مغدوشة حيث كانت القواعد التي تؤوي عناصر من حزب الله. الأول سقط في كروم الزيتون وتمكنت فرق الجيش الإسرائيلي من محاصرة القرية بالنيران وطائرات الهليكوبتر حتى انتشلته في ساعة متأخرة من الليل. فيما الآخر اختفى، وبقي حتى اليوم لغزاً من ألغاز الحرب اللبنانية. كان الطيار الأول بلا اسم بلا عنوان لا نذكر أو أتذكر منه شيئاً سوى عمليات الإنزال الكثيفة التي قامت بها الطائرات والبوارج الحربية على المدينة حتى انتشلته قرب منتصف الليل. الطيار الآخر كان رون آراد الذي لم يظهر بعد.
رون آراد، ليس وحده الذي اختفى في تلك الحرب. الحروب الأهلية، كما الحروب كافة يبتلع الناس كما لو أنهم بشر في نهر يعج بالتماسيح. من يذهب يذهب ولا يعود، تبقي الحروب من الأشياء ذكراها وأحياناً تبتلع حتى الذكريات فلا تبقي ولا تذر. كتاب الحرب، كتاب ملعون، من يغامر بفتح صفحاته يذوب كقطعة سكر في فنجان قهوة.
(3)
الشاب السمين، جداً، الذي كان يقف في الصندوق الخلفي لسيارة تويوتا باترول تحمل رشاش الدوشكا الذي صنعته روسيا. انتهى مع الحرب. كان مقر التنظيم الناصري قبالة حيّنا، وكان علينا المرور من هناك، يومياً تقريباً، للوصول الى الساحة الترابية المهملة. التي حولها، الى ملعب لكرة القدم، شباب الحي، من الذين ما زالوا يعملون في أشياء شتى الى جانب الجري اليومي خلف الطابة.
كان يقف في الخلف ممسكاً بقبضتي رشاش الدوشكا الحربي، فيما السيارة النيسان ذات الدفع الرباعي تشق الإسفلت والهواء معاً، وجهه الأبيض الذي تفور منه الدماء لتحيله الى اللون الأحمر القاني، ثم شعره الأشقر، ثم كرشه الذي كان يتدلى أمامه ليبرزه كائناً مرعباً، ملامحه كانت كفيلة لتجعله رجل حرب. كنت، كلما أنظر إليه وأنا أنتظر باص المدرسة في الصباح البارد، أشعر بأن الحرب بشعة فعلاً إذا كانت تشبه قوام هذا الرجل. لم أشاهد في حياتي رجلاً دميماً كما ذلك الرجل، الذي بعد الحرب بسنوات رأيته يجر عربة مثقلة بحمولتها من حبات الطماطم الجبلية الزهرية اللون واللذيذة. تحول من لاعب حرب الى بائع خضار كأحد إفرازات الحرب الأكثر تدميراً للذات والمجتمع.
لم تقتله الحرب لكنها أحالته الى كائن هامشي بلا فائدة في أوقات السلم. فيما المبنى الذي كان يعيش فيه ويحرسه تحول الى مدرسة لتعليم اللغة الإنكليزية.
(4)
أمس، كان لبنان يحترق. مرة جديدة، رأيته من هنا، يشتعل، كأن الإقامة في الأعالي الأوروبية، ستجعلني، لمرة جديدة متفرجاً نهماً ومكتئباً. يغامر السياسيون اللبنانيون بوطنهم من أجل الوفاء لولاءاتهم. مشهد بيروت، الذي كان يأتي تباعاً على شاشات التلفزة. بيروت وهي تحترق، أشاح عن وجهي كل فترة السلم الأهلي التي عاشتها المدينة. الفترة التي عشت فيها شبابي منذ مطلع التسعينات الى وقت المغادرة النهائية للوطن الذي ينتج أبناءه ليتركوه. تماماً، كما لو أنه رب الأسرة الذي ما أن يكبر أولاده حتى يتركوه كل الى حياته وعائلته ومشاغله وعادياته ويومياته دون أن يتخلوا عنه.
مرة ثانية، يضيع لبنان، أو كاد أن يضيع، أو هو فعلاً على طريق الضياع من أجل الآخرين. غسان تويني الذي كتب يوماً أن الحرب هي حرب الآخرين على أرض لبنان، وأن البلد ليس سوى ساحة لتصفية الصراعات في المنطقة. كان يعرف، أكثر من أي شخص آخر، أن الحرب هي فعل الآخرين وأن اللبنانيين باختلاف مشاربهم وطوائفهم وأديانهم ولا أديانهم، ليسوا سوى، الفحم الحجري الذي يجعل مرجل الصراع مشتعلاً.
مرة ثانية لبنان يحترق أو سيحترق أو هو على طريق الاحتراق. والى أن يحين ذلك الوقت، سأشاهد المعركة عبر التلفاز، هذه المرة. فيما ذاكرتي ستعيش الحرب الماضية.
مرة ثانية أو ثالثة وربما رابعة، إن أحصينا الحروب الأهلية، يحترق لبنان. تشعله بنادق أبناؤه لا الفتنة، لا يستفيد من الكميات الهائلة من المتعلمين والمثقفين أو حتى الشعراء. القصائد لا توقف الحروب، ربما، على العكس، تشعلها. غالبية الشعراء الذين عاشوا فترة الحرب كمنتجين للشعر كانوا يوالون أطرافاً سياسية وحربجية. ومع أني أفهم كيف يمكن أن يتغزل محمود درويش بغصن الزيتون والبندقية من أجل وطنه السليب، إلا أنني لا أفهم كيف يمكن أن تكون أجمل الأمهات تلك التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً على ما قال يوماً حسن العبد الله.
باريس