أثناء مشاهدتي لفيلم كوري ملحمي عنوانه (ذات مرة في أرض المعركة Once Upon a Time in a Battlefield)، شدني منظر درامي عجيب يقف فيه مزارع بسيط خلف ملك محارب يواجه جيشاً ينتظره خلف أسوار قلعة هوانج سانبول. ويحث المزارع الملك على الخروج إلى المعركة قائلاً: «إن النمور حين تموت لا تخلف وراءها سوى جلودها، أما الإنسان فيترك وراءه ذكرى بطولته». عندها ينفعل الملك أويجا Uija ويسأل المزارع: ما اسمك؟ فيرد مرتعباً: أنا فرد بسيط لا اسم لي، يمكنك أن تدعوني عديم الاسم!
وبعدها يأخذ الملك في مناداته: «يا عديم الاسم»، مرة تلو الأخرى، فإذا بنا أمام معضلة فلسفية ذكرتني بأشهر معضلات الفيلسوف اليوناني يوبيوليدس Eubulides معروفة باسم (الكاذب The «liar paradox») والتي قوامها أن عابر سبيل يمر برجل ويحذره قائلاً إن عليه ألا يصدق ما سيقوله له أول شخص يلقاه اليوم لأنه كاذب، وعندها يواجه الرجل مشكلة تصديق عابر السبيل أو عدم تصديقه، ويعجز عن التحقق من كونه صادقاً أم كاذباً لأنه هو نفسه أول شخص يلقاه اليوم. والمعضلات مصائد منطقية يصعب الخروج منها بحل حاسم، وها هو عديم الاسم يكتسب اسماً حتى وإن كان الاسم نفسه ينفي اكتسابه اسماً.
كان الخوف هو دافع الرجل البسيط لإخفاء اسمه الحقيقي واختراع اسم ينفي تميزه، فالتسمية ما هي إلا عملية تمييز بين الناس، وهي أداة التصنيف والترتيب عند النوع البشري. أو ربما هو احترامه للملك صاحب الاسم العظيم الذي يتضاءل أمامه المزارع مهما كان اسمه. هذا الطمس للاسم هو محاولة لطمس الهوية، بل والقيمة الفعلية لوجود إنسان ما، وكما يقول الإمام الغزالي، فإن للأشياء.. وجود في الأعيان.. ووجود في الأذهان.. ووجود في اللسان. فالموجود إذاً يتحقق وجوده ويكتمل في تلقي الآخر له، كل منا لا بد أن يكون صورة في عين الآخرين، وفكرة في أذهانهم، واسماً ينطقون به فيدل علينا، وبدون هذا أو ذاك ينتفي وجودنا من أصله.
في الحكي الشعبي تظهر الشخصيات في معظم الأحيان بدون اسم، فقصة عن بنت وأخرى عن ولد، وغيرهما عن تاجر أو سلطان أو عامل بسيط، فالتعريف بهم لا يتم إلا من خلال الجنس أو الصنعة أو الموقع الاجتماعي، وذلك مفيد طبعاً في تعميم الوضع الحكائي وسهولة إسقاطه على التجربة الإنسانية دون تخصيص. لكن هناك حكايات تتخذ من الاسم والتسمية موضوعاً لها، فتحقق تماساً مع الفيلم الكوري (ذات مرة في أرض المعركة)، اختلافاً وتشابهاً.
فالفتاة التي تلهف والديها إلى إنجابها تركا لها الخيار في تسمية نفسها حين تكبر، وعندما فعلت اختارت لنفسها اسماً: (اللي الهوا ما يلعب بعقلها.. تلعب على الناس وماحد يلعب بها)! طبعاً، حتى أن أمها في الحكاية تقول لها: «كل ده اسم يا بنتي؟» لكن الأب يتدخل ليترك لها حريتها. هذا الاسم يلخص الحبكة، فهو دافع للتحدي والنقض، خاصة للرجل الذي سيتزوج صاحبته. مثل (عديم الاسم) تقضي البنت زمناً طويلاً بدون اسم يدل عليها، وحين ينطلق الدال يرتبط بفعل ينازع مصداقيته. في دفاع الفتاة عن معنى اسمها، هي في الحقيقة تدافع عن حقها في الوجود، فإن غلبها أحد ولعب عليها، خاصة بالهوا (الهوى)، فتستخسر جوهر اسمها، وبالتالي هويتها التي ميزتها.
وفي حكاية أخرى تجد فتاة نفسها في علاقة زوجية مع رجل يرفض أن يصرح لها باسمه، فهو يطلب منها أن تقبل به هكذا بلا اسم، والأكثر من ذلك أنه لا يقدم لها اسماً بديلاً ولا يقترح أن تسميه عديم الاسم، لكنه يبقى كذلك ولا تدل عليه إلا ضمائر المخاطبة والغياب. حين تقع تحت ضغوط أخواتها لضرورة معرفة اسمه، تضعه أمام مطالبة قوية لا تتنازل عنها، ويقف هو أمامها يسألها مرة بعد الأخرى: أتريدين اسمي أم جسمي؟ فتصر اسمك. ومرة بعد الأخرى كان يتلاشى شيئاً فشيئاً حتى غاب عن ناظريها.
هذا التنافر بين الاسم والمسمى هو صراع بين الجوهر والمظهر، بين الأصل والطارئ. مقولة شكسبير المشهورة التي ينطق بها روميو مغازلاً جولييت: «ما أهمية الاسم؟ الوردة حتى تحت أي اسم آخر تظل فواحة جميلة...»، تشير إلى أن التلاؤم بين الاسم والشيء ليس طبيعياً بل اعتباطيا، هو نتيجة تواطؤ بين الناس على اتخاذ رمز ما يدل على شيء ما. الاسم ليس سوى أداة تواصل وفرز، لكن العروة بينه وبين مسماه قابلة دائماً للانفصام.
وهناك حكايات كثيرة يظهر فيها البطل أو البطلة حرصاً شديداً على أسمائهم فيخبئونها ولا يصرحون بها، ليس فقط لفرض الاختيار بين الاسم والجسم، ولكن بدافع من الخوف على أنفسهم من التلاشي لو عرفت أسماءهم. تقول بنت البير: «لو أنا نطقت باسمي على طول يتحول جسمي لموية وأرجع تاني البير»، وتقول ست ططر: «ما كنت أقدر أنطق باسمي لا يروح جسمي». إخفاء الاسم خوفاً من التعرض للخطر فكرة متجذرة في التراث الشعبي، نجدها عند الهنود الحمر الذين يمتلك الواحد منهم اسمين، أحدهما معلن وثانيهما سري، تخوفاً من تسلط من يريد به شراً. وقد ترسخ هذا المعتقد عند كثير من شعوب العالم فاتخذوا طرقاً مختلفة لإخفاء أسمائهم لكيلا تتم السيطرة عليهم عن طريق أسمائهم، فمعرفة اسم الشيء تعني القدرة على التحكم به.
في المعتقد الشعبي الحجازي كان الاسم مفتاحاً للشخص وكاشفاً عنه، وعندي قصص عن أشخاص غيروا أسماءهم تخفياً من شر يلازمهم، فيهربون منه تحت اسم جديد. وعندما يكون الطفل كثير المرض كانوا يغيرون اسمه باعتقاد أن الاسم منظور وثقيل على الطفل، فيشفى. الاسم كالطاقية، إن رفعتها ضعت في عالم المجهول فلا يستدل عليك، أو أنها طاقية إخفاء تتستر خلفها فتمشي حراً طليقا لا ترصدك عين راصد، اسم يغطيك وآخر يكشفك.
الاسم تعريف لا يقود بالضرورة إلى الشرور والأمراض، بل يمكنه أن ينقل المسمى إلى عالم من السعادة والهناء. ففي الاسكيمو مثلاً، يتخذ كبار السن أسماء جديدة لاعتقادهم أنهم سيحصلون معها على حياة جديدة، كما أن الفتاة حين تتزوج في اليمن، يمنحها زوجها اسماً جديداً يناديها به طالما هي في بيته، فكأنها ولدت من جديد.
هل تتحد الأسماء مع مسمياتها وتتطابق، أم أنها تتنافر معها وتتعارض؟ هل تتقمص جوهرها أم تطمسه؟ هل تستره أم تعريه؟ هل معاني الاسم ثابتة أم أنها متحركة ومتداخلة؟ كل هذه التساؤلات كانت شغلاً شاغلاً للحكايات الشعبية والغوص فيها متعة فكرية لا حدود لها.
من (الطين) لعبده خال:
- ... أخبرني ما اسمك؟
- ليس مهماً.
- بماذا أناديك إذاً؟
- لا أعرف، ولكن لا أراه مهماً، فالأسماء سجون، وأنا خارج هذا السجن.
- الاسم سجن! كيف ذلك؟
الاسم دليل على أنك داخل حيز، داخل إطار، وأنا جئتك من خارج الأطر، أتمنى لو أن لي اسماً معيناً أستند إليه ويخرجني من هذه الدوامة..... ص 38- 39
جدة
lamiabaeshen@gmail.com