أسوأ ما تعلمناه في بيوتنا احترام الكبير ورحمة الصغير، هذا لأننا نؤسس أخلاقياتنا على سلب حرية الأصغر مهما أصبح كبيرا، الأبناء الذين يبلغون الأربعين من عمرهم لا يجدون احتراما من آبائهم بل رحمة فقط، والرحمة دون الاحترام تنطوي على فكرة أبوية سلطوية تسلب حرية أي إنسان لأنه دائما هنالك من هو أكبر منه، الأكبر الذي يرحم ضعفه ولا يحترم شخصه، لا يحترم رأيه سلوكه أو قدرته على الاستقلال، إنها صورة عن عصر العبيد حيث رب العبد رحوم بعبده لكنه لا يحترم عبوديته ولا يقبل منه أي اختلاف أو رفض أو اختيار، لأنه يتملكه كإنسان.
احترام الكبير دون الصغير صورة أبوية لا تعترف بالاستقلال ولا بالفردية لأن كل كبير يملك صغارا مهما كبروا الصغار، وهؤلاء الصغار هم أيضا بالنسبة لسواهم كبارا، وبذلك هم أيضا يتملكون من هم أصغر منهم، هذه الحلقة الاجتماعية المستمرة في الدوران تصبح مستحيلة على الكسر، فيستحيل على الإنسان داخلها الخروج من دور العبد الذي يحتاج الرحمة تماما كما يستحيل عليه الخروج من دور الرب الذي يملك عبدا أو عبيدا. وعند الحديث عن مجتمعات مدنية لا تحكمها العادات ويضبط حدودها القانون، مجتمعات الحقوق والواجبات فيها ليست حالة من العاطفة المشوشة، والأدوار الاجتماعية التي يعيشها الفرد أدوار واعية بمهمتها وواعية بمالها من حقوق وبما عليها من واجبات، مجتمع لا يعيش فيه الإنسان أدواراً لا واعية مورثة ضمن ثقافة تقسو عليه وتنمط إنسانيته.
في مثل هذه المجتمعات يكون الاحترام شرطا بين الناس جميعا الأطفال قبل الكبار، في هذه المجتمعات المدنية الحرة من ثقافة الوصاية والأبويات لا يوجد صغار إلا الأطفال، وحتى هؤلاء الصغار يجب لهم الاحترام تماما كما تجب لهم الرحمة، فرحمتهم لا تعني عدم حقهم في الاحترام، بل تعني أن الاحترام هو الشرط الأساسي لكل أنواع العلاقات الاجتماعية بين الناس.
في هذه المجتمعات، بلوغ العقد الثاني من العمر يكفل لكل إنسان الاحترام من الجميع، لن يحتاج الإنسان في هذه المجتمعات للرحمة من أحد، لأن القانون سيحميه من أي حالة ضعف، ذلك أن مفهوم المساواة هو جوهر الثقافة المدنية الحرة، المساواة بكل أشكالها، أي اختلاف في العرق أو الجنس أو المعتقد أو الفكر أو السلوك أو الملبس لا يخلق أي نوع من التمييز في الإنسانية، لأن المساواة لا تقوم على فكرة إلغاء الفروقات بل على القبول المطلق لها كما هي، دون أن يشكل أي من هذه الاختلاف أي تمييز في التعامل، لا صغير ولا كبير لا رجل ولا امرأة، ليس ثمة اختلاف يحتاج من خلاله الإنسان لتمييز في التعامل مثل الرحمة.
المسألة ليس في معنى الرحمة الجميل والإنساني بل في ثقافة تجعل من الرحمة سببا في التقليل من قدرة الإنسان وحريته وفردانيته، ثقافة تجعل من الرحمة سبباً في تسلط بعضنا على بعض باسم الأكبر الذي يعرف أكثر ويدرك أكثر، تتحول الرحمة هنا من شعور إلى نظام، نظام يستوجب طاعة المرحوم الصغير للكبير الذي يقدم له الرحمة، نظام تصبح فيه الرحمة جبرية لا بإرادة الإنسان، يفقد بذلك شعور الرضا على نفسه عند رحمته للصغير، وتصبح الرحمة مثل مهام إلزامية تضيق عليه وتثقل من حريته.
الرحمة التي تصبح نظاماً اجتماعياً أبوياً تزيد من شعور الإنسان اللا واعي، تزيد من تراكمات الشعور الفوضوي المعبأ بهواجس لا يعرف سببها ولا يستطيع التفكير بها بوعي، كيف يفصل الإنسان الكبير بين رحمته للصغير وبين تملكه له؟ كيف يعيش الإنسان الصغير هذه الرحمة ويفصل عنها شعوره الملزم بقبول كل ما تأتي به هذه الرحمة من تسلط الكبير عليه، هذه الرحمة التي تصادر إنسانا بآخر، تصادر الشعور الإرادي بالنظام الجبري، تصادر الحرية بالسلطة، تصادر حق الصغير بالاحترام باسم رحمته.
المساواة إذن هي المعادل الذي يضبط للرحمة والاحترام أصالة معانيها، يحفظ للإنسان حقها فيها دون أن يجعل منها بابا للسلطة أو التملك أو المصادرة، المساواة هي الاعتراف بفردانية الجميع، فردانية الصغير قبل الكبير، الفردانية التي تحقق لكل فرد حق الاحترام، لأنه إنسان فقط لا لأنه كبيراً.
lamia.swm@gmail.com
الرياض