Culture Magazine Thursday  07/06/2012 G Issue 376
الملف
الخميس 17 ,رجب 1433   العدد  376
 
القصة القصيرة جداً
د. مسعد أحمد مسرور

 

ما القصة القصيرة جداً؟

إنها قصة أولاً وقصيرة جداً ثانياً

إنها قصة قصيرة جداً قائمة على الحكي وللحكي والقص متعة ولذة خاصة، والقص المكثف بحث في اللامرئي الذي يمفصل الذات يقول النفوي (كلما اتسعت الرؤيا ضاق الكلام) أي قل والقصة القصيرة جداً تتميز بالإيغال في لغة مشعرنة تمحي الفواصل بين عناصر النص القصصي المختلفة، كما تمحي الفواصل بين الكاتب والراوي والشخصية الرئيسية.

أنها قائمة على الاختزال قائمة على التكثيف قائمة علىالشحنة العاطفية التي تنطلق انطلاقة سريعة ثم تنفجر ونموذجها قصة يوسف إدريس القصيرة جداً (المرتبة المقعرة) وليوسف إدريس عبارة يشرح فيها كيف كتب قصصه القصيرة جداً وهي قصة (نظرة) و(المرتبة المقعرة) و(العصفور والسلك) قائلاً: إنني في كل قصة قصيرة أكتبها أشعر أنها إنما هي محاولة جديدة لتعريف جديد للقصة لم أقله... إن كل قصة قصيرة قرأتها وهزتني تماماً كانت دائماً لحظة تركيب كوني متعدد المكونات، يؤدي إلى خلق مادة جديدة تماماً، عن كل المواد العضوية وغير العضوية... مادة جديدة اسمها الحياة(1).

كلام يوسف إدريس يؤكد على أمرين هامين للغاية: الأول منهما هو أنه ليس بالضرورة أن يكون للقصة القصيرة جداً تعريف محدد وتتحرك من خلاله ونحكم به على العمل الفني كشكل جامد.

المرتبة المقعرة

ليلة «الدخلة» و»المرتبة» جديدة وعالية ومنفوشة، وفوقها بجسده الفارع الضخم، واستراح إلى نعومتها وضخامتها قال لزوجته التي كانت واقفة إذ ذاك بجوار النافذة:

انظري.. هل تغيرت الدنيا؟

نظرت الزوجة من النافذة ثم قالت:

لا... لم تتغير.

- فلأنم يوماً إذن.

ونام أسبوعاً، وحين صحا كان جسده قد غور قليلاً في المرتبة. فرمق زوجته وقال:

انظري.. هل تغيرت الدنيا؟

فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت:

- لا.. لم تتغير- فلأنم أسبوعاً إذن.

-نام عاماً، وحين صحا كانت الحفرة التي حفرها جسده في المرتبة قد عمقت أكثر، فقال لزوجته: انظري هل تغيرت الدنيا فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت: -لا... لم تتغير. - فلأنم شهراً إذن نام خمس سنوات، وحين صحا كان جسده قد غور في المرتبة أكثر، وقال كالعادة لزوجته: -انظري.. هل تغيرت الدنيا؟ فنظرت الزوجة من نافذة ثم قالت: لا... لم تتغير. - فلأنم عاماً إذن نام عشرة أعوام- وكانت المرتبة قد صنعت لجسده أخدوداً ؟؟؟، وكان قد مات وسحبوا الملاءة فوقه فاستوى بسطحها أي انبعاج، وحملوه بالمرتبة التي تحولت إلى لحد وألقوه النالفذة إلى أرض الشارع الصلبة. حينذاك وبعد أن شاهدت سقوط المرتبة اللحد حتى مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من نافذة وأدارت بصرها في الفضاء وقالت:

- يا إلهي! لقد تغيرت الدنيا.

والأمر الثاني أن القصة القصيرة جداً تستمد مادتها الرئيسية من الحياة، ولذلك فإنه لا يوجد لدى كاتب القصة القصيرة أو القصة القصيرة شيء ينظر إليه على أنه قالب جوهري؛ لأن إطاره الذي يرجع إليه لا يمكن أن يكون الحياة الإنسانية برمتها وهو لا بد أن يختار دائماًَ الزاوية التي يتناولها منها، وكل اختيار يقوم به يحتوي على قالب جديد، كما أن الصدق الفني في التجربة الإبداعية هو المعيار الذي تستند عليه أية تجربة فنية.

أما تحديد نوعية الكتابة مهم جداً حتى لا تختلط الأنواع الأدبية بعضها بالبعض الآخر.

ويقول نجيب محفوظ عن قصصه القصيرة جداً التي نشرها في مجلة (نص الدنيا)المصرية ثم نشرها في كتاب بعنوان (أحلام فترة النقاهة) الآتي (إن الشكل الذي تخرج به القصة القصيرة في الوقت الحار يخضع لقواعد الفن والتي تتميز في المقام الأول بالمرونة وهي تتسع دائما لكل جديد)(2).

وأثناء مؤتمر الرواية العربية بالقاهرة عام 2005م وجهت سؤالا إلى الطيب صالح الكاتب السوداني عن قصصه القصيرة جداً: كيف جاءت فكرة هذه القصص القصيرة جداً، ولماذا نشرها في مجموعته القصصية (دومة ود. حامد) وماذا يسميها؟ قال الطيب صالح: اعتبر هذه القصص القصيرة جداً هي في نظري خاطرة قصصية أو ومضة قصصية أو بذرة قصصية يمكن أن تتحول إلى قصة قصيرة مثل (حفنة تمر أو نخلة على الجدول) ويمكن أن تتحول إلى رواية؛ ففي هذه الأقاصيص القصيرة جدا قصة كانت هي البذرة الأولى لرواية موسم الهجرة إلى الشمال أرجع إلى مجموعتي «دومة ود حامد) لو سمحت واحكم بنفسك.

الحلم رقم 143

سمعت صوتا غير مألوف فمرقت بسرعة إلى فناء العمارة فرأيت رجلاً غريباً أثار في نفسي الريب، فناديت البواب ولفتُّ نظره إلى الرجل الغريب، فأخبرني بهدوء أنه موظف ويؤدي واجبه الرسمي وهو أخذ الزائد من الأفراد من المساكن المكتظة وينقله إلى مسكن يتسع له، فاعترضت قائلاً إنه يأخذ فرداً من أسرة ويخلف حزناً وينقله على رغمه إلى مكان لا يرحب به، فقال البواب بأن هذا هو القانون ونحن لا نملك حياله إلا الإذعان والتسليم(3).

حلم رقم 118

وجدتني في ميدان محطة الرمل المزدحم دوماً بالبشر، ولمحت في ناحيته الرجل الذي تردد كلماته الألوف وهو يغازل غانية فهمت في أذنه (إذا بليتم فاستتروا) فقال: وهل ثمة ستر أقوى من ملابسها؟!

الحلم رقم 143

والحلم رقم 18 كنموذجين لقصص نجيب محفوظ القصيرة جداً يكتب النموذجين بعد السطر 16 من الورقة (2) الثانية.

(إن الشكل الذي تخرج به القصة القصيرة في الوقت الحاضر يخضع لقواعد الفن والتي تتميز في المقام الأول بالمرونة وهي تتسع دائماً لكل جديد والإبداع الفني ليست له حدود) بعد هذه العبارة نأتي بالنموذجين حلم 143 وحلم 118 أي بعد السطر 16 من الورقة الثانية.

وفي عام 2001م كرمت جامعة أسيوط ممثلة في كلية الآداب قسم اللغة العربية الكاتب والقاص المصري محمد مستجاب، وتم عقد ندوة نقدية حول أدبه وأعماله الإبداعية الأخرى، وقد سألت القاص محمد مستجاب عن تعريفه لفن القصة القصيرة جداً عن هذا الفن الجديد الوليد، فقال: هذا ليس جديداً ولا وليداً فقد فرضه علينا روح العصر وصحافته السريعة ذات الحيز الضيق، بل يا صديقي موجود منذ الأزل في تراثنا القديم.

وقرأنا عليه قصته المنشورة في مجلة الهلال المصرية بعنوان (سعاد) وكذلك قصة الكاتب المصري محمد المخزنجي عنوانها (رائحة النفس) والمنشورة في مجلة العربي الكويتية.

قصة (سعاد) محمد مستجاب

(في جيبي مفتاح شقة صديقي المعار لي لمدة أربع وعشرين ساعة فقط) وكتاب -أنا وسعاد- وللمرة الرابعة نحتسي شاي الظهيرة في سميراميس، وعبثت يدي في المفتاح و-ما رأيك أن نأكل (فسيخنا) معاً؟!

توردت الأنثى وأشاع الفسيخ في وجهها نظرة مرغوبة اضطررنا أن نلجأ لحي شعبي حتى نجد بغيتنا، سألتني سعاد والرجل يناولني الفسيخ.. أين سنأكله، آه أين سنأكله!! كانت سعاد واجفة قلقة متبرمة لكنها متسلمة، لفة الفسيخ في يد واليد الأخرى تدير المفتاح في الباب، ويدور المفتاح ولا يفتح وضغط ويظل المفتاح معاندا، ونرطبه مرة أخرى بلعابنا ولا يفتح وننزل السلم يغمرنا صمت ورائحة.

قصة 2

الفسيخ تتسلل من تحت إبطي (*)

أما قصته «رائحة الشمس» محمد المخزنجي (ما نحن - الرجال - إلا أطفال أمهاتنا. مهما كبرنا أو استطلنا تظل أمهاتنا حاملات أسرار لمعجزات تظل نرتجيها.

ولقد كانت معجزة أمي أنها تخبئ بعضاً من الشمس في ثيابنا المغسولة. سأظل أتذكر أنها كانت تجمع الغسيل بعد جفافه عندما تبدأ الشمس رحلة هبوطها بعد العصر، وعلى الكنبة التي بركن الصالة ترتفع كومة الثياب النظيفة وفي هذه الكومة كنت ألقي بنفسي لأغرق في رائحة لم تكن في وعيي غير رائحة الشمس - راحت كومة الثياب عن كنبة الصالة. غابت إلى الأبد. وكبرت أنا إلى حد أنه حتى لو ظلت الكومة ما كنت أستطيع أن ألقي بنفسي فيها. كل ما أستطيعه الآن هو أن أوصي زوجتي بألا تجمع الغسيل المنشور إلا بعد العصر. وبزعم أنني أساعدها في جمع الغسيل، ألتقط قطعة منه وأغرق وجهي فيها. تضحك زوجتي قائلة «كف عن الوسوسة» تحسبني أتشمم الغسيل لأتيقن من نظافته، فهي لا تعرف أنني أبحث عن معجزة من كانت تخبئ بعضاً من الشمس في ثيابنا.. أبحث عن عطر أمي(4).

لقد كان رأي مستجاب في القصتين الآتي:

بالنسبة لقصة معاد هي في نظره تمثل اللوحة القصصية الموجزة جداً والمركزة جداً مسترشداً برأي للناقد المصري يحيى حقي حول تعريفه للوحة القصصية. أما رأيه في قصة رائحة الشمس للمخزنجي فهي في نظره تمثل قصة الومضة أو الخاطرة السريعة المركزة. وعقب قائلاً: اللوحة، أو الومضة أو الخاطرة في الأخيرة تنتمي لشجرة كبيرة لها فروع كثيرة تسمى القصة.

وللدكتور عبدالعزيز المقالح بعض الآراء حول فن القصة القصيرة جداً.. يقول المقالح:

(في منتصف السبعينيات في اليمن بدأ هذا النوع من القص يستهوي المبدعين وكان القاص والشاعر (حسن اللوزي) مؤهلاً أكثر من غيره لتبني هذا الفن والمضي به قدماً لولا انصرافه إلى الشعر أولاً وانشغاله بالأعمال الإدارية ثانياً، وهذا نموذج من الأقصوصة كما كان قد بدأ في كتابتها والتمكين لانتشارها:

1- قالت العجوز

- ياتي زمن نأكل فيه الأحجار

قال أبي:

- يأتي زمن أكلك فيه والأطفال!!

قال أخي الصغير:

القطة السوداء الكبيرة أكلت القطط الصغيرة!!.

2- في الليل سمعت صراخاً ينفذ من سرة زوجتي النائمة وهي تعاني من أوجاع شهرها التاسع.

- لن أخرج لو ينسف هذا المهبل بالديناميت.

3- قالت القابلة:

(انتظروا..!...! انتظروا.. انتظروا)(5).

يقول عبدالعزيز المقالح هل من المبالغة في شيء القول بأن هذه الأقصوصة بمساحتها المحدودة وبكلماتها المعدودة تقول مالا تقول رواية من المطولات المليئة بالثرثرة والسرد الجامد الجاف؟ وهل الجيل الجديد من المبدعين الشبان قادراً على النهوض بهذا المستوى من الفن القصصي المواكب لإيقاع الحياة ومناخ الطور الأسرع(6).

القصة القصيرة جداً وتجارب الغرب

لقد ترجم الكاتب والناقد المصري فتحي العشري رواية «انفعالات» للكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت عام 1971م وكتب على غلاف هذا الكتاب «قصص قصيرة جداً» حيث إن كل صفحة من الكتاب تحتوي على قصة وقام المترجم بترقيم القصص واليكم القصة رقم (24):

(كانوا نادراً ما يظهرون، بل يقبعون في شققهم داخل حجراتهم المظلمة ويترقبون، يتصلون تليفونيا بعضهم البعض، يتباحثون ويتذاكرون، ويتلقفون أقل علامة وأبسط إشارة.. كان بعضهم ينعم بقطع إعلان الصفحة مبينا بذلك حاجة أمه إلى خياطة باليومية، كانوا يتذكرون كل شيء وكانوا شديدي الحرص والسهر عليه يتماسكون بالأيدي في حلة محكمة ويحيطون به.

كانت جمعيتهم المتواضعة ذات الوجوه نصف المطموسة والمعتمة تتعلق به وتحيطه في شكل دائرة وعندما كانوا يرونه وهو يزحف باستحياء محاولا أن ينفذ بينهم، كانوا يخفضون بسرعة أيديهم المتشابكة ويجلسون القرفصاء، حوله مسلطين عليه نظراتهم التي لا تعبر عن شيء بعينه، ولكنها لا تتزعزع وهم يبتسمون ابتسامة فيها لمحات الطفولة (7).

وهناك كتابات عالمية متنوعة لكتاب كثر يمكن أن تنضوي تحت إطار القصة القصيرة جداً منها ل(كافكا، والالان غربية، وفرجينيا وولف دأو. هنري وجيمس جويس وكتاب أمريكا اللاتينية وكتاب روسيا وكثيرين.. غيرهم في الآداب العالمية.

وإليكم نموذج للقاص والكاتب العالمي هارفي ستانبرو نشرها في كتابه المسمى «كتابة حوار حقيقي وقصة قصيرة جداً» والقصة النموذج عنوانها «عند الاعتراف» وهي أول قصة قصيرة جدا ناجحة للكاتب وعدد كلماتها لا تتجاوز خمسا وخمسين كلمة.

قصة (عند الاعتراف)

(باركني يا أبتي لأنني أخطأت

- كم مضى على آخر اعتراف لك؟

- سنتان

- وما هي المشكلة؟

- تمنيت الموت لرجل

- ولم تنفذ رغبتك هذه؟

- حتى الآن، لا

- من هو هذا الشخص؟

- إنه ينحونني مع زوجتي

- شحب وجه الكاهن فقال: (إنني أغفر لك)

فأطلقت عليه عياراً نارياً من وراء الستارة)(8).

الإطار المكافي في قصة «عند الاعتراف» هو كنيسة والشخصيات هي الراوي الكاهن، لاحظ أولاً كيف تم جر القارئ مباشرة إلى القصة عبر الحوار الهادئ والمشحون بالتوتر في الوقت نفسه. والصراع معقد (فقد حدث أولاً في ذهن البطل خلال سنتين، حتى اعترافه برغبته بموت شخص) ثم يتجول إلى شخص الكاهن قبل الحل مباشرة في لحظة إطلاق النار على الكاهن. ونقول لم يكن الكاهن عدو بطل القصة، بل الزوجة، وهي الشخصية الثالثة، وقد أشير إلى وجودها تضمينا.

لاحظ أيضاً أن الإيحاء يعمل على توجيه رأي القارئ إلى الكاهن والإيحاء هنا بأن الكاهن مذنب لا يسوغ بالضرورة الحل الجائر، ولكن اعتراف الكاهن الضمني بالذنب، أولاً أمام القارئ «شحب لون الكاهن»، وبعد ذلك أمام بطل القصة الراوي «إنني أغفر لك» يسوغ هذا الحل. ومن المحتمل ألا نرضى عن الحل لو أننا شككنا بأن الكاهن كان بريئاً.

لاحظ أيضاً أن القصة تبدو أكبر مما هي بالفعل.. يبدو أنها تبدأ قبل أن يتكلم الراوي، وتستمر إلى ما بعد السطر الأخير. وفي القصة القصيرة جداً من النادر أن يكون فيها متسع للحبكة (وهي سلسلة من الأحداث التي تسبب تزايد التوتر الذي يؤدي بالنهاية إلى الحل) ولكنني أعتقد أن الاتساع الافتراضي لهذه القصة هو نتيجة لحبكة: الصراع الأول الضمني هنا (خيانة الزوجة) يؤدي إلى الصراع الثاني (في عقل البطل) وهذا يؤدي إلى الصراع الثالث (مواجهة البطل) للكاهن وخوف الكاهن الذي نجم عن تلك المواجهة)، مما يؤدي إلى الحل. ولاحظ أيضاً أننا نشعر بالرضا عن النهاية؛ فلا نتساءل عما يحدث للراوي نتيجة عمله. هل أخذه رجال الشرطة؟ هل حوكم وأودع السجن؟

يحتمل أن تكون الإجابة قصة أخرى أو قصتين(9).

لقد أسهمت الترجمة من اطلاعنا على آداب الأمم الأخرى حين تم ترجمة نصوص قصصية من الآداب العالمية فقد كان لها تأثيراً على الأدب العربي ولا ننسى في هذا المقام ما قامت به مجلة نوافذ السعودية الصادرة عن النادي الأدبي في جدة ومجلة إبداعات عالمية الصادرة عن المجلس الوطني للكويت ومجلة الآداب العالمية الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق سوريا.

فماهي القصة القصيرة جداً؟

يقول الناقد السوري أحمد جاسم الحسين (القصة القصيرة جداً نص إبداعي يترك أثراً ليس فيما يخصه فقط بل يتحول ليصير نصاً معرفياً دافعاً لمزيد من القراءة والبحث فهو محرض ثقافي يسهم في تشكيل ثقافة المتلقي على البحث والقراءة10.

أما تعريف الدكتور محمد مينو (القصة القصيرة جداً حدث خاطف لبوسه لغة شعرية مرهفة وعنصره الدهشة والمصادفة والمفاجأة والمفارقة، وهي قص مختزل وامض يحول عناصر القصة من شخصيات وأحداث وزمان ومكان إلى مجرد أطياف ويستمد مشروعيته من أشكال القص القديم كالنادرة والطرفة والنكتة، فالشكل قديم ويرجع إلى تلك البدايات وربما يعود إلى الرواد الأوائل ل(خواطر) محمود تيمور الملحقة بمجموته القصصية (ما تراه العيون) سنة 1922)11.

وعند الناقد العراقي باسم عبد الحميد حمودي (نموذج تكثيف الحدث - الموقف الذي يطرحه القاص بهذا الشكل مفضلاً عدم طرحه بشكل قصة اعتيادية نظراً لالتهابه12.

أما رأي الناقد السوري عبد الله أبو هيف بقوله (هي شكل من أشكال السرد أشد كثافة وأكثر بلاغة من القصة القصيرة أو المتوسطة)13.

ويقول الناقد العراقي جاسم خلف إلياس (القصة القصيرة جداً هي التسمية المطابقة تماماً لنوع قصصي قصير يستقي أسسه الجمالية من بيئته الداخلية التي منحت (لجداً) وجودا شرعياً لا يفرضه من الخارج عليه بل بتفاعلهامع تجليات وتمظهرت قصصية جعلتها تغاير المواصفات المتحققة في أنواع قصصية أخر بتعاقد طبيعي بين المؤلف والقارىء فرضته التغيرات الشمولية وبتأثير متبادل بينه وبين الأنواع الأدبية المجاورة له في سياقاته التاريخية والجمالية)14.

أما الدكتور والناقد الفلسطيني (حسين المناصرة) له رأي خاص يقول فيه: (أما القصة القصيرة جداً فهي خلاصة لتجربة سردية لابد أن يسبقها - على وجه العموم - باع طويل في كتابة كل من الرواية والقصة القصيرة أو إحداهما على الأقل، بحيث تغدو هذه الكتابة ذات آلية جمالية مركزها المغامرة والتجريب وفق رؤى متمكنة وأصيلة في فن السرد لا رؤى مبتدئة ومستسهلة لهذه الكتابة الإبداعية أو غيرها)15.

القصة القصيرة جداً في السعودية

القصة القصيرة جداً هي نوع من الأنواع السردية الحديثة فرضته على الساحة الابداعية عوامل ثقافية وفكرية وذوقية جاءت استجابة لتطور تاريخي طبيعي لسيرورة الأجناس الأدبية والاشكال الفنية.

فالاجناس الأدبية والفنية دائماً في تطور وتجدد مستمر في صيغ وأشكال فنية متنوعة، خاصة إذا انطلقنا من الاجابة التي تقدم بها تود وروف حول سؤاله من أين تأتي الأجناس؟ يقول: (بكل بساطة تأتي من أجناس أدبية أخرى، والجنس الجديد هو دائماً تحويل لجنس أو عدة أجناس أدبية قديمة عن طريق القلب أو الزخرفية أو التوليف) (16) .

فالقصة القصيرة جداً في السعودية جاءت نتيجة لعدد من الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتأثر بما يحدث في الأقطار العربية الشقيقة وكذلك الانفتاح الكبير على الثقافة العالمية.

فهذا الجنس الأدبي والقصة القصيرة جداً هي أحدث أنواع الكتابة القصصية في المملكة العربية السعودية وقد تميزت بالايجاز والتكثيف والرمز واللغة القصصية الشعرية الايحائية وتقنية المفارقة ويقول بهذا الخصوص الدكتور عبد العزيز السبيل:

(في العقد الأخير من القرن العشرين برز الاتجاه الحداثي في الأدب السعودي لدى كثير من المبدعين عبر أشكال التعبير المختلفة وتزامن مع المد الحداثي ظفرة الكتابة السردية فبرزت مجموعة كبيرة من كتاب وكاتبات القصة القصيرة التي لم تعد تكتب القصة التقليدية المعتمدة على حدث وشخصيات عبر سرد واقعي بل غدت القصة تركز على التكثيف والاتجاه نحو اللغة الشعرية الايحائية)(17) ولعل أبرز من يمثل ذلك جبريل الميلمان، فهد المصبح جار الله الحميد، فهد الخليوي، حسن البطران، شريفة الشملان، خيرية السقاف، وعبد الله التعزي وعلي المجنوني.. الخ وغيرهم كثيرون في الساحة الأدبية.

لقد حوت في أواخر القرن الماضي وخاصة عقد التسعينيات تغير اجتماعي وثقافي وطفرة نفطية جديدة وانتشاراً للتعليم الجامعي وانفتاح على العالم الخارجي واكبه ظهور عدد كبير جداً من الكتاب والكاتبات بعضهم نشأ في بيئات هامشية انعكست في كتاباته القصصية وظلت نصوصهم لها صلة بواقعهم الهامشي لكن بعض منهم قطع صلته بالواقع فبدلاً من تصور أن النص انعكاس للواقع أصبح يطمح هذا الكاتب أو الكاتبة إلى ما هو أكثر وهو أن يقيم حواراً وجدلاً مستمراً مع الواقع من خلال الإفراط في المبالغة، وتصوير قبح الواقع وتشوهاته وتمزقاته وانعكاس ذلك على الشخصية القصصية والتعامل مع أدوات العمل نفسها وهذا انعكس مثلاً في العلاقة مع اللغة وكان كل كاتب يستخدمها حسب قدراته.

والقصة القصيرة جداً في السعودية لم تعد سرداً لوقائع بل كيان قائم بشعريته يستفزالواقع ويقيم جدلاً معه وتميزت بشكلها القصير جداً ولغتها المكثفة وتقنية المفارقة ونصها المفتوح أو المقدد الدلالات الذي هو أحد أهم سماتها.

لقد تبين لناكل ذلك من خلال قراءتنا للقصص القصيرة جداً التي جمعها الأستاذ خالد اليوسف في هذا الملف.

لقد استطاعت القصة القصيرة جداً في السعودية أن تضيف الكثير إلى إنجاز القصة العربية الحديثة جداً وهي الآن تعتبر رافداً مهماً من روافد القصة العربية، لقد جذبت هذه القصة اهتمام القارىء العربي حين فتحت له كوة جديدة استطاع من خلالها الاطلاع على بقاع اجتماعية وثقافية وفنية جديدة فهي قصة المستقبل وجيل الانترنت ويقول: عنها الناقد المغربي جميل حمداوي (من هنا نرى أن القصة القصيرة جداً ستكون جنس المستقبل بلا منازع مع التطور السريع للحياة البشرية والاختراعات الرقمية الهائلة وسرعة الايقاع في التعامل مع الاشياء وكل المعنويات الذهنية والروحية)18.

القصة القصيرة جداً في السعودية في محاولاتها الأولى مرحلة التأسيس

تعود مرحلة التأسيس لهذا الفن الجديد القصة القصيرة جداً من الناحية التاريخية إلى سنة 1976م عندما نشر القاص السعودي (جبريل المليحان) إحدى عشرة قصة قصيرة جداً في ملحق المربد الثقافي بجريدة اليوم السعودية بتاريخ 10-4-1976م وبذلك التاريخ بدأ فن القصة القصيرة جداً في الظهور في السعودية متزامناً على الأرجح مع ظهور هذا الفن في بقية البلاد العربية الأخرى.

لقد استطاع جبيرل المليحان أن يؤسس هو ورفاقه من الكتاب السعوديين الجدد لفن القصة القصيرة جداً وتخلقت على أياديهم لغة قصصية فريدة في إيقاعها وتراكيبها ومضمونها وقدراتها الدلالية، لغة كثيفة متوهجة ومشعة ومركزة متدفقة بالحياة نابضة بالرموز والإيحاءات الدلالية المدهشة وحول ذلك يقول الناقد محمد صالح الشنطي:

(أما جبيريل المليحان في قصصه القصيرة فهو يلتقط اللحظات المتشظية بأناقة وشفافية بانوراما يتجاوز الواقعي والرمزي والتجريدي والفانتازي فيها جنباً إلى جنب هل ثمة ما يشير إلى فقدان التناسق في العالم المحيط أم هي الرغبة في التجريب والضرب في فيافي الابداع)19.

وهو إذ يفعل ذلك ينتظم في إطار توجه فني أصبح له حضوره في ساحة القصة القصيرة المحلية حيث يتعامل مع اللحظات الحادة في قصص قصيرة جداً تعبر عن روح العصر الذي نعيشه وإذ تأملنا قصص جبير المليحان المنشورة في هذا الملف وهي (ثلاثة) (أمن) (الأرض)، زمن، أمس.

ففي قصته الأولى (ثلاثة) تعتمد هذه القصة على الإيجاز وخاصية التكثيف وبلاغة الكلمة لتتحدث عن أجيال ثلاثة الطفل - الأب - الجد وتغدو حركة الزمن في هذه القصة وكذلك قصة (زمن) و(أمس) هي الضابطة المتحكمة للايقاع القصصي من خلال رؤية القاص عبر الجدلية الزمنية المنسابة في ثنايا السرد الجميل المنتج للمعنى من خلال ثلاثة أزمنة هي المستقبل الحاضر الماضي، ويصور في قصته (أمن) المبالغة الكبيرة في الاحتياطات الأمنية والخوف من المجهول، وما سوف يحصل في المستقبل إنها سخرية جميلة عبرت خير تعبير عن وضعنا الراهن بكلمات قليلة معدودة موجزة وبلغة شاعرية مكثفة مكتنزة بالسخرية كما أنه يذهب إلى شحن المفردة والجملة القصيرة الخاطفة بكل ما يمكن من طاقة التعبير والترميز حسب المتخيل السردي والحالة القصصية المنتابة للحظة الشعورية.

أما القاص فهد الخليوي حاول في كثير من قصصه أن يشكل نصوصه القصصية وفقاً لمنحاه الخاص فيتعامل مع الواقع نابشاً في نخاعه باحثاً خلف الظواهر المرئية عما هو أعمق، مبحراً في سراديبه السرية التي تختفي وراء المعالم الخارجية، وفي نفس الوقت يعمل على اعتقاد المشهد الواقعي حتى النهاية20.

كما أنه يجيد العزف على أوتار السرد القصير جداً (القصة القصيرة جداً) فهو فنان ماهر يصور أدق خلجات النفس الانسانية ويختار حدثه القصصي بما يتناسب والاركان الأخرى للقصة، أما وجهة النظر فيصورها من زاوية معينة تثير فينا الاعجاب بها كما أنه يختار الاستهلال الجميل لقصته أما خاتمتها هي الخاتمة المدهشة التي تميزه عن غيره.

وإذا نظرنا لقصصه المنشورة في هذا الملف وهي (أحفاد) (بحر وانثى) (مكابدة)، ظلام (لص) القاص في هذه القصص يركز على الوظيفة الأساسية للاستهلال والخاتمة من خلال زج القارىء في الحدث مباشرة (استهلال) وخلق حالة إدهاش في خاتمة القصة فهو يسعى إلى خلق قصة متماسكة يشذ بها ويبعد عنها الزوائد من الكلمات، وهدفه من ذلك التركيز على وحدة الموضوع القصصي عبر اللغة المكثفة الموحية، فالأهمية التي تعطى لجملة الخاتمة لا تقل عنده عن الأهمية التي تعطى لجملة الاستهلال وهذا ما يميز قصص فهد الخليوي المدهشة).

قصة 3

أسجل لعبدالعزيز الصقعبي في كتابته للقصة القصيرة جداً نجاحاً باهراً على مستوى تداخل حبكة النسيج القصصي واستخدام الألفاظ الموحية؛ فاللغة عنده فائقة مذهلة في طواعيتها مذهلة في إيمائيتها وضبطها.. وتوظيفها كمصطلح وأداة إيصال وجمال.

وإذا تأملنا قصصه المنشورة في الملف وهي: مهماه، رجل خشبية، ورقة بيضاء، نظرة، نلاحظ أن النماذج القصصية السابقة تعطي صورة واضحة عن تجربة الصعقبي في كتابة القصة القصيرة جداً من حيث سلاسة الأفكار، استخدامه للتقنيات شعرية الالفاظ الايجاز والاختزال الفني، طريقة توصيل الفكرة طرافة الموضوع وجدته، الأنسنة، ودهشة الخاتمة الصادحة للقارئ.

يقول عنه محمد صالح الشنطي: (يهتم عبدالعزيز الصقعبي بالشخصية اهتماماً واضحاً فيلجأ إلى تحليلها من الداخل ويحاول السفر إلى دواخلها عبر التداعيات النفسية المحكومة بالمنطق، والتي هي أقرب إلى الحديث النفسي منها إلى تيار الوعي في مرحلة ما قبل الكلام، فالشخصية في أغلب الأحيان مشغولة بذاتها منهمكة في حديث داخلي، عاكفة على استبطان ذاتها(21).

أما القاص عبدالحفيظ الشمري فهو علامة بارزة في القصة والرواية السعودية له عالمه الخاص واسلوبه الخاص جداً في الكتابة، له رؤية وزاوية خاصة ينظر من خلالها إلى العالم المحيط به.

أنه مصور مجيد لعالم الفقراء والمهمشين يصور معاناتهم، احلامهم، آمالهم ذكرياتهم أماكنهم المحاصرة بالبؤس والشقاء، كا أنه يجيد تصوير المسافة بين الحلم الجميل والواقع القبيح والسعي من خلال ذلك إلى المستقبل تقوده الآمال والأحلام حين يعود بذاكرته إلى الزمن الماضي زمن الطفولة الجميلة، حين كان الماء يحفظ في القرب والجرار وحين تنتعش ذاكرته بالاحداث القديمة يصوغ القاص شخصياته وهي تبحث في الماضي كما في قصة (القرب والجرار) و(قيادة) عن الخلاص من بؤس الحاضر إلى ذكريات الماضي، ونجد تداخلاً بين الماضي والحاضر في قصصه.

ويحتكم البناء السردي لديه إلى نسق زمني تستعيد فيه الذاكرة نشاطها في التطلع إلى المستقبل الزاهر، التطلع إلى الأمل وتجاوز الألم.

ويوضح لنا ذلك باشلاء من خلال العلاقة التلازمية بين الماضي والحاضر بقوله:

(سرعان ما توصلنا إلى الاعتراف في الواقع بأن الذكرى لا تعلم دون استناد جدلي إلى الحاضر فلا يمكن إحياء الماضي إلا بتقييده بموضوعة شعورية حاضرة بالضرورة بكلام آخر. حتى نشعر أننا عشنا زمناً - وهو شعور غامض دائماً بشكل خاص - لابد لنا من معاودة وضع ذكرياتنا، قيمة الأحداث الفعلية، في وسط من الأمل أو القلق في تماوج جدلي، فلا ذكريات بدون هذا الزلزال الزمني، بدون هذا الشعور الحيوي)(22).

فالقاص عبدالحفيظ الشمري يصور معاناة الإنسان المهمش المحاصر المقموع في الماضي والحاضر كما أن لديه القدرة على إزاحة كل الأقنعة التي تغط بقبح الواقع وزيفه؛ فهو تعلمه الجميل يصور لنا ويظهر زيف الواقع الذي يعيشه وانكسار الذات الإنسانية في ماضيها وحاضرها. إنه يسعى دوماً وأبداً في اعماله الإبداعية إلى خلق العالم الجميل ويتجلى ذلك من خلال الكتابة القصصية عن العالم المقهورين والمهمشين والمقهورين اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً وذهنياً.. عالم الفئات الدنيا في المجتمع المنتهكة إنسانيتهم.

أما القصة القصيرة عند خالد اليوسف فهي دوامة لا تهدأ.. يلج بك منذ اللحظة الأولى في أتون الأزمة وصف مادي وفكري ونفسي، وتجسيم بالكلمات للحظات التوتر في عبارات قصيرة تجرد الموقف من ملابساتها المكانية والزمانية وتخذله إلى قضية تتصارع في أجوائها المشاعر والكلمات والجمل التي تختزل اختزالاً شديداً(23) هذا الكلام السابق ينطبق على قصص خالد اليوسف المنشورة في هذا الملف وهي الصلاة على الحاضر، رصيف، تعاقب، قرفصاء.

في القصص السابقة نجد كاميرا الراوي تسلط أشعتها على حركة الزمان والمكان وايقاعه، ويلعب الزمن دوراً أساسياً من حيث حركة الأحداث في تسريعها أو حذف بعض منها أو تقليصها من خلال تقنيات كالحزف السريع الوقفة التلخيص وهذه التقنيات تعمل فيما بينها على إنجاح التماسك النص للقصة القصيرة جداً.

أما أسلوبه يعتمد على التكثيف الشعري أسلوب شديد التوتر، شديد التحليق في الفضاء الإنساني بطرق أحيانأً في ضباب نفسي اغترابي واصفاً لنا إنسانه المأزوم في ذروة اغترابه عن الحياة وتذمره من واقعه المعيش باحثاً عن طريق جديد للخروج من نفق الاغتراب المظلم.

أما القاص والروائي محمد المزيني فيصور لنا في قصصه الآتية (بقشيش) (وصرخة) (ونخلة) الفعل ورد الفعل عبر جمل قصيرة تسعى لبلوغ أعلى تمركز سردي يتصل ببؤرة الحدث وزمانه ومكانه وشخصياته القلقة التي صورها لنا عبر سرد مركز مشع من الطراز السريع الخاطف البرقي، وذلك من خلال الأفعال المتلاحقة لتصوير المشهد سردياً وسينمائياً عبر تطور الاحداث المتسلسلة حتى الوصول إلى البؤرة القصصية التي تشكلت داخل الاطار العام للقصة، فهو مصور بارع يعتمد على المونتاج السينمائي والتكسير الظاهر لزمن القص فهو يصور لنا مشاهد صغيرة جداً من زاوية احترافية ناقلاً لنا صوراً مركزة بمر الشريط السردي المرحي المعبر عن اسئلة غامضة محيرة تحتاج إلى إجابة شبه مقنعة.

وتتميز قصص صلاح القرشي بالاقتصاد في الألفاظ والتركز على الجمل القصيرة جداً ذات الجر الرنان والكثافة الشعرية، وهذه السمات لها وظيفة فنية هامة في العمل القصصي القصير جداً تتمثل في الآتي تكثيف الرؤية ووحدة التأثير، كما أن لهذا التكثيف الفني بعداً دلالياً يتمثل في دلالة المشهد، وكل ذلك يتجلى لنا في القصة القصيرة جداً الآتية (سمكة زينة) (دندنة) و(حالة) و(أغنية).

استطاعت هذه النصوص القصيرة جداً وصف عالم حي متدفق بالحياة عبر الكلمات الموحية وعبر الشخصيات التي تتوق إلى التمرد على الواقع الكئيب، رغم قوة وأركان وصلابة أغلاله فهي تسعى للانطلاق إلى عالم الحرية الرحب. كما منحت المكان قيمة دلالية وجمالية ملحوظة فالاحساس بالمكان نابع من إحساسنا بالزمان فكلما كان زمان السرد مكثفاً ومتماسكاً كان المكان بذات الكثافة والتماسك.

ويعتمد القاص حسين حجاب الحازمي في قصصه القصيرة جداً على استخدام الرمز والأسلوب الشاعري المكثف لبناء قصصه القصيرة جداً وأحياناً يرمز إلى فكرة معينة بأسلوب شائق، كما في قصة الفراشة أو قصة حيرة فهو يصف لنا مشاهد مكثفة مقطرة يجمعها خيط خفي حين يركز على التفاصيل الدقيقة والجزئيات الصغيرة في وصفه للمشهد القصصي.

فالشخصيات هنا أنماط ورموز تعبير عن تناقضات الحياة، النور، الظلام، الفراشة، الوزغة - الفرح - الحزن - الجمال - القبح. ففي قصة (فراشة) يخبرنا الراوي بأن الأشياء الجميلة في حياتنا لا تستمر طويلاً بل سرعان ما يلفها القبح والظلام الدامس.

أما قصة (حيرة) فهي تصوير فني لحيرة الإنسان المعاصر المقهور من قبل قوى الطغيان والاستبداد التي تتحكم في حياته ومصيره فهو يعيش في حيرة دائمة غارقاً تماماً في همومه؛ فالقصتان (فراشة وحيرة) مصنوعتان بحذق ومهارة وقوة سبك، ويتميز الكاتب باختياره للمواقف المناسبة في قصصه، وكذلك تكثف قصصه بشكل عام عن هوية المعنى والمغزى، وبذلك تؤسس حقلها الدلالي.

ويقول صبري حافظ حول ذلك: إن الاختزال والأخبار عن طريق الايحاء أو التضمين هو التقليد الأول للعمل القصصي؛ لأن هذه الطريقة المختزلة الموحية في القصص هي التي تشحن الجملة الواحدة بالعديد من المعاني والإحالات وتمكن الاقصوصة من تكثيف عالم كامل في بعض كلمات (24).

وفي الأخير، نقول إن عدداً من كتَّاب وكاتبات القصة القصيرة جداً المهمين يستحقون الوقوف عندهم وقد وقف بعض الدارسين عند بعض أعمالهم وتنبهوا على ما فيها من قيم جمالية فنية وإنسانية وأشاروا إلى إضافتهم إلى حركة القصة العربية في المملكة العربية السعودية.

الهوامش

* محمد مستجاب، الزهور ملحق الهلال العدد السادس يونيو 1974م ص11.

(1) يوسف إدريس، القصة القصيرة أكثر الفنون تعقيداً، صحيفة الأهرام، العدد الصادر 19 أبريل 1988ص11.

(2) نجيب محفوظ، الأهرام، الإبداع الفني ليس له حدود.

(3) نجيب محفوظ (أحلام فترة النقاهة) ط1، 2005، دار الشروق، مصر، ص116.

(4) محمد المخزنجي، مجلة العربي الكويتية العدد 416 - 1993م ص75.

(5) حسن اللوزي صحيفة سبتمبر العدد 975 شهر سبتمبر 2001 ص15.

(6) عبدالعزيز المقالح صحيفة سبتمبر العدد 975 13 سبتمبر 2001 ص15.

(7) انظر انفعالات - ناقالي ساروت - ترجمة فتحي العشري الهيئة المصرية العامة للكتاب 1971 - قصة رقم (24) ص147.

(8) هارفي ستانبرو - الآداب العالمية - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد كتاب العرب (العدد 173 شتار 2009 ص47-48).

(9) المرجع السابق نفسه ص49.

(10) أحمد جاسم الحسين القصة القصيرة جداً دار الأوائل للنشر 2000م ص 18.

(11) د. محمد مينو فن القصة القصيرة مقاربات أولى دبي الامارات 2000م ص 38.

(12) باسم عبد الحميد مجلة الاقلام العراقية العدد (2) تشرين الثاني 1978م ص 135.

(13) عبد الله أبو هيف مجلة الآطام العدد 21 كانون الثاني شباط 2005 ص 72.

(14) جاسم خلف إلياس (شعرية القصة القصيرة جداً) سوريا - دمشق - دار نينوي 2010م ص 84.

(15) المجلة الثقافية ملحق الجزيرة العدد 175 - 16-11-2006م أوحسين المناصرة (مقاربات في السرد) عالم الكتب الحديث إربد الأردن ط 212م ص 269.

(16)- تزفتان تودوروف الأجناس الأدبية - مجلة الثقافة الأجنبية العدد 1 السنة 2 - 1982م ص 46.

(17) عبد العزيز السبيل (أصوات قصصية) دار المفردة الرياض ووزارة الثقافة والاعلام 1433هـ ص 13 - 14.

(18)جميل حمداوي: القصة القصيرة جداً بالمغرب مجلة العلوم الانسانية الطبعة الأولى 209 ص 82.

(19) محمد صالح الشنطي آفاق الرؤية وجماليات التشكيل - النادي الأدبي بمنطقة حائل ص 589.

(20)محمد صالح الشنطي - القصة القصيرة في السعودية ص 212.

(21) محمد صالح الشنطي، القصة القصيرة في السعودية ص 74.

(22) غامستون بامتلار - جدلية الزمن ترجمة خليل أحمد خليل المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت ط 3 - 1992 ص 47.

(23) محمد صالح الشنطي - القصية القصيرة المعاصرة في السعودية ص 266.

(24) صبري حافظ خصائص القصة القصيرة وجمالياتها، مجلة فصول، القاهرة، المجلد الثاني العدد الرابع 1982 ص 25.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة