تُبحر الشاعرة دينا الشهوان في ديوانها الجديد «كما أنا» من مرافئ الطفولة نحو أعماق الإنسان الذي بات يعيش معضلة البحث عن الذات، فلم يعد أمام الشاعرة إلا أن تقارب المسافات بين حلمها الجميل وواقع الحياة المتنائي بعضه عن بعض من خلال هذه الرؤية الجمالية التي ترفع درجة الذائقة وتؤسس لخطاب أنثوي لا يتخلى عن شفافيته حتى وإن تثاقلت رؤى الواقع حولها.
النص الأول الموسوم بعنوان «قال:» خطاب يستعيد لغة الروح الجميلة عن طفولة تودها الشاعرة أن تبقى على مدى الحياة.. فهي أرق مشهد نتفاعل معه حينما تشاغب الطفولة ما حولها على نحو استكشاف الحياة من خلال مكونات الرجل كتبه وأوراقه وأحلامه ونظراته.
فالنص يأتي على هيئة إلماح إنساني معبّر تعتد به الكاتبة «دينا» وتجعله فاتحة البوح ومنطلق الحكاية التي تروم فيها الوصول إلى إيقاظ الحياة في زمن موت المعاني وتنائي الممكن في وجه المستحيل الآخذ بالتمدد والتشظي.
ومن الحنين إلى تباريح الوجد تلهج المرأة في سكنات ليلها عن حلم سيأتي علّه ينقذها من ضجر الانتظار: «أتساءل أي الدروب الخافقات يتخذ منحى له.. أي العيون العابرات تقتنص روحي؟! ما عاد يأتي ولا يأتي ألم الحنين»..
«فالهاجس الإنساني لدى دينا الشهوان مستسلم لقدره، ومرتهن لواقعه الذي لا يمكن الفكاك منه، إلا أنها وبكل وعي تسعى إلى التعايش معه وفهمه ومن ثم تحجيمه والتغلب عليه كأي همّ يسكن وجدان الإنسان المثقل بالوعي وحب الحياة».
تذهب النصوص في هذا الديوان إلى استخلاص صورة الأنثى حينما تخوض غمار الواقع بكل ما يحمله..
فلا تجد في ثنايا هذه الانثيالات سوى امرأة تسعى إلى التخلص من منغصات كثيرة تؤرقها وتجعل منها حالة متأرجحة بين خيال سادر وواقع ساخر يتجاذبان قلبها ومشاعرها حتى إنها لم تعد متيقنة - رغم الفأل - بقرب نهايات الحزن المعتق في وجدانها.
نص»بوح طفل» رسالة تبث فيها الشاعرة صورة الأسى الواقعي الذي تعيشه الطفولة، لتقدم من خلال رغبة الطفولة هذه الرسائل الأليمة التي تكشف لنا مزيداً من الوفاء للحياة رغم حصار الموت في أماكن كثيرة..
فلم تجد دينا الشهوان سوى الطفولة أن تقدم خطابها الاستدراكي على واقع تتعاظم فجائعه، فبدلاً من أن يُوصي الأب أبناءه ها هو الطفل يكتب وصيته لأبيه وأمه في مشهد مأساوي يضوع رغبة في الحب والحياة رغم الأخطار المحدقة: «أبي لا تتأخر.. طفل عيناه تسأل أبي: أكلما هم بنا الوطن غرسنا راية وحملنا كفن» فالشاعرة تدرك من خلال هذه الوصايا أن الطفولة هي المعنية في تكوين الحالة وهي المزيج الإنساني الفريد بين الحياة والموت..
حيث تظل اللثغة الجميلة بوابة للفأل بأن يعود العالم إلى رشده، وأن تنقشع غمامة الألم وصورة القتل وبكاء الفاجعة، فليس بمقدور الطفولة إلا أن تقاوم القبح بابتسامات الفأل بأن تتبدل أحوال الناس إلى ما هو مبهج وجميل.
تتساوق النصوص في اتجاه واحد يتمثّل في خطابات وامضة قصيرة تنشد الخلاص من منغصات كثيرة، حيث تسعى الشاعرة إلى تطريز لوحاتها الشعرية بما تمتلكه من خطوط الوعي، وجماليات الوصف لكي يكون المشهد مقبولاً وغير صادم، وإن لم يكن بتمام الرضا، إنما هو سعي للبقاء من أجل الحياة حيث تستجمع القصائد كل الصور الجميلة من أجل السلام والأمل والحنان والود والبحث عن ألق جميل يُقال عنه الوعد بغدٍ أفضل..
تستدرج الشاعرة دينا الشهوان في ديوانها فرضيات البقاء الممكن رغم يأس يحتم اشتعالات الرحيل والغربة..
فهي تنوس بقدر ما يمكنها الفأل أن تبقى صامدة في وجه ألم الرحيل الممكن في زمن البحث عن هوية لم تعد ممكنة في مرتهن تحولات الحياة الآن.
لم يبق سوى حقل الطفولة..
حيث سعت إلى محاولات دائبة لعلها تغرس فيها شتلات الفأل، وبذور الأمل، فليس أجمل من أن يكون الخطاب الشعري نابعاً من صدق التعامل مع هذه المكونات الإنسانية البسيطة حيث يظل الطفل هو الشاهد الحقيقي على مرحلة تحدث الآن وليس بوسعه إلا أن يكون صادقاً ليتحدث عنها متى ما كتبت له فرصة البوح من جديد..
إشارة:
«كما أنا» - شعر
دينا أديب الشهوان
دار المفردات بالرياض (ط1) 2012م
يقع الديوان في نحو (88 صفحة) من القطع الصغير.