تمثل الساحة التشكيلية حديقة غناء تمتلئ وتزدان بالكثير من رموز الجمال في الإبداع والعطاء الذي أصبح يسابق الزمن مما جعل من هذا التحرك السريع مجالاً لاكتشاف الكثير من حالات التوقف أو السير ببطء بين جيل وآخر وبين فنان أو فنانة وغيرهم، وقد يكون الجيل الجديد من الشباب الأكثر تحركاً لسخونة دمائه وقدرته على تجاوز التجارب والمحطات الأولى في مسيرتهم وامتلاكه روح المغامرة والبحث في مختلف السبل لتحقيق أجمل النتائج وأرقي الإبداعات من مختلف روافد الفنون التشكيلية.
ويسرنا من خلال هذه الصفحة من المجلة الثقافية بجريدة الجزيرة أن نقدم كل أسبوع رمزاً من رموز الفن التشكيلي قاصرين الاختيار على الجيل الجديد من الجنسين واضعين في الاعتبار تنوع الأساليب وسبل التعبير التي يزخر بها الفن التشكيلي في عصرنا الحالي.
عين لا تخطئ الجمال
ضيفنا اليوم الفنان الشاب فهد خليف الذي ملأ الساحة ضجيجاً محبباً، ومنافسة شريفة استطاع من خلالها أن يفتح له طرقاً ومسالك وموقع قدم من بين أبناء جيله، ومقارباً للأجيال التي سبقته بالقدرات وإن كان يتفوق على الكثير منها، الفنان خليف امتلك الموهبة مبكراً وصقلها بالدراسة الأكاديمية رغم أن ما تلقاه فيها أقل مما شاهدنا له من إبداع فالكليات الفنية في بلادنا لا تعنى بالفن التشكيلي كهدف يستوجب التركيز على الإبداع التشكيلي وكيفية التعامل معه أو مادة مستقلة بقدر ما يتم التركيز على طرق التدريس وبعض المحاضرات والدروس العملية لمتعلقة بمادة التربية الفنية، لهذا كان لتحرك لفنان فهد خليف بعد تخرجه أكبر وأكثر حضوراً اعتماداً على ما كان يحمله من طموح أن يكون فنانا أولاً وأن يكون له أسلوب مستقل.
والحقيقة أن الفنان خليف يمتلك عين لا تخطئ الجمال، وعقل يمكنه من بلورة ما يشاهده مهما كان في كثير من الأحيان مشابهاً أو مقارباً لأسلوب سابق، فأخذ من كل حديقة ما يخدم إحساسه وأدخلها في معمل وجدانه، ومختبر بحثه وخبراته، وخرج لنا بالجديد المثير للجدل والباعث للإعجاب.
شفافية لون وعمق في التكوين
قد يفوت على المشاهد لعادي الكثير من القيم الفنية التي يتطلب حضورها في أي عمل فني، لكن المتخصص وصاحب لخبرات الطويلة إن كان ممارساً للفن أو من النقاد أو من محبي الفنون وزوار المتاحف والمعارض، لا يمكن أن يغض الطرف أو يقبل أي خلل في أي إبداع تشكيلي، ومن هنا يمكن القول إن الفنان فهد خليف قد حقق التوازن في إبداعه وحظي بقناعة الكثير من أصحاب الرأي، وحقق بذلك جوائز متقدمة، مع أن هناك من لا يرى في الجوائز الحكم الحقيقي على تميز العمل الفائز، أو أن صاحبه يمتلك قدرات تفوق غيره، لكنها عند فهد خليف تختلف وتفرض نفسها، ففي أعماله كل القيم الفنية بناء خطياً ومعالجة للون والمساحات وتزاوج بين الكتلة ولفراغ، وإذا تجاوزنا هذه القيم، والأسس الأكاديمية فإننا نجد جانباً أكثر إشراقاً جالباً للإعجاب في كسره أحياناً لتلك الحدود أو التقليدية إلى فضاء من الحرية والتعامل مع الفكرة بحرية مطلقة، لكنها لا تتعدى ما يعنيه الفنان أو تحيد عن ما خطط أن تكون عليه اللوحة عند إمضائه عليها.
تكرار لا يمل
قد يكون التكرار في العناصر عند بعض الآراء نوعاً ما الخطأ أو تشكيكاً في عدم قدرة الفنان على التنويع، لكنني اتفق مع الغالبية الذين يرون أن بإمكان الفنان أن يختار عناصره ويقوم على توظيفها خدمة لفكرة قد لا تنتهي مشاهدها أو ما قصد التعبير بها في فترة قصيرة، وهي سمة عالمية، لها في تاريخ الفن لكثير من الشواهد، أن يختار الفنان عنصراً ويجعله منطلقاً لإبداعه الطويل، فالفنان خليف حينما نشاهد له تكرار للطائر غير المحدد أو للشخوص ذات النمط المتميز باللباس أو النقوش أو حتى السمكة التي نراها في لوحاته أحياناً خارج البحر وجزء من البيئة العامة، كل هذا التكرار لا يجعلنا نستحضره من لوحة إلى أخرى بقدر ما نرى لكل لوحة خصوصيتها. كما أنه أجاد كثيراً في توظيف الحرف مع أنه عنصر مقيد للعمل وينتهي بنهاية ما يعنيه بينما بقية العناصر تمنح الفنان مساحة أكبر من التحرك.
الرمز والدلالة الفنية عند خليف
لا شك أن الرمز من أهم ابتكارات الإنسان قبل اللغة وبما أن الفن التشكيلي كما يوصف باللغة الصامتة فقد أصبح الرمز فيه بديلاً عن الكلام كالشعر وغيره وأصبحت رمزية الفنون أكثر سهولة في التعامل مع العين والعقل والوجدان، وقد أجاد الفنان فهد خليف في توظيف الرمز فنياً وجمالياً ليصبح لغة تعبير يقرأ بمدلولاته اللونية والشكلية فقد جعل الرمز عنصر من عناصر اللوحة يحل مكان الواقع كشكل يستدل به على الفكرة.. مع ما أضفاه من إشارات قد لا يكون لها معنى بقدر ما وجد فيها نوع من إحداث التوازن دون إخلال بالرمزية الأ هم المستمدة من انفعالاته النافذة إلى أعماق المكنون، عوداً إلى الصور الذهنية التي اختزلها الفنان في عقله الباطني إن كان قاصد أو لم يقصد فالمختزل الباطني مساحة لتسجيل الإحداث والمشاهد وبه كثير من المرجعيات منها ما نستحضره عنوة ومنها ما يأتي هو عنوة دون رضانا في حالات التجلي عند إبداع اللوحة فهناك علاقة بين الفرد وبين محيطه بكل أشكاله المحببة إلينا أوعكسه، الجميل والقبيح، المرئي والمسموع، وما ينتج عنه من حالات نفسية ووجدانية، تتحول عند المبدع في أي من الفنون الإنسانية إلى رموز يجمع فيها بين المعنى وبين الجمال كما نشاهدها في لوحات فهد خليف.
أخيراً
لا شك أننا حينما نقف أمام إحدى لوحات الفنان فهد خليف نستحضر مزيج بين الماء والتراب بين البحر ورمال لصحراء التي تخرجنا من زحام المدينة إلى حالة من الرغبة في الهذيان الذي لا يحدث إلا من عاشق للمشاهد الحالمة والخطوط التي تشبه في انحنائها صوت الربابة نحو هواجس تحكي كل شيء، تدلف إلى أبواب اللاوعي لتستفز الوعي بومضة تقيم للوجدان احتفالية يرقص فيها اللون والأفق والتدوين.
monif@hotmail.com