Culture Magazine Thursday  06/09/2012 G Issue 378
قراءات
الخميس 19 ,شوال 1433   العدد  378
 
ابن زريق
زياد بن حمد السبيت

 

ابن زريق.. ورحلة اللاعودة وكم تشبّث بي خوف الفراق ضحى وأدمعي مستهلات.. وأدمعه قد قطّعتْ نياط القلب !! فلم تبق ولم تذر، وقد فتّتتْ كبداً حرقت أسى ولظى، أيُّ فراقٍ هذا؟ إن لم يكن وداعاً إلى آخر العمر، ورحلة يبحر فيها الوله والوجد إلى مجهول ملّكه أمره وأولاه أمانته، وأيّ وطن قد استفرغ من أهله وأحبابه؟ هل هو شظف العيش وطلب الرزق؟ أم رحّالة جوّاب أمكنة؟ يسيح في بحبوحة من العمر يريد قضاءها في اكتشاف ما خلق الله !!، أم ممن قُدر له أن يكون طريد طاغية ودكتاتور يعيث في الأرض فساداً كطاغية الشام، فهرول بعيداً ميمِّماً وجهه إلى هامش من الحرية يرى فيها بصيصاً من حياة، وهكذا تقضي الأيام ما بين أهلها وتسير بنا الحياة في جداول من العمر يدفعها صروف الدهر وتقلّباته فيكون فيها من يكون بين ارتفاع وانحدار. فليس أدمعه مستهلاّت فحسب بل هناك في ضفّة الأحباب مياه تجري على خدود نواصع قد ضربت في قلب بخنجرِ نصلين لا يبرأ منها من لا يبارحه الشوق وتباريح الهوى، وكأنه يتمثل بقول أبي بكر الخالدي:

إن خانك الدهر فكن عائذاً

بالبيد والظلماء والعيس

ولا تكن عبد المنى فالمنى

رؤوس أموال المفاليس

ولذلك لم يعش أحلام اليقظة ولم يمنِّ النفس بالآمال يرقبها، فأصم أذنيه بحيث لا يسمع إلا الرحيل مهما كان اللوم والعذل. كم قد تشفّع بي ألا أفارقه وللضرورات حالٌ لا تشفّعه وها أنت فارقته ولم ينفعه تشفّعه!، وأي ضرورة هذه؟ ألست القائل:

قد وزّع الله بين الخلق رزقهم

لم يخلق الله من خلقٍ يضيّعهو

الحرص في الرزق والأرزاق قسّمت

بغي ألا إن بغي المرء يصرعه

والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه

عفواً ويمنعه من حيث يُطمعه

هل انتفت الضرورة بهذا؟ وما كل هذ العناد؟ ولوكنت جبلاً لتيسر لمن تشبّث بك ارتقاءه بحيث لم يتيسر لأن يصعد لشغاف قلبك فيلين ما قد استعصى، وإنما تسترجع ما أضناك فبتَ في ندمٍ بعد ندم.

لا تعذليه...... ويحكِ ما إن يلتقط أنفاسه حتى تذكّريه وتعتبي على روح قد أصبحت مهترأة، فيزداد ولعاً وقد خيّرها بين القلب والعقل فتختار العقل:

لا تعذليه فإن العذل يولعه

قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

جاوزت في لومه حدّاً أضر به

من حيث قدرت أن اللوم ينفعه

فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من عذله

فهو مضنى القلب موجعه

لله درك يا ابن زريق لم يثنك عتاب ولا عذل ولا لوم حتى، وهي ممسكة بتلابيبك تبكي حرقة على فراقك لم تحرك ساكناً سوى أدمع مستهلات، ولم تغير قرارك بعد هذا كله، أهو القدر؟ وإنك قد استشعرت بأن أيامك تُنسج بالغيب وأن ذلك لا يجدي نفعاً فهو أمر قد قُدر، وما لنا لا نسمع ممن نحب إلا لأننا نقدم العقل على القلب، وأن العاطفة لا تسمن ولا تغني من جوع، وأنّ العاطفة قد تجعلك مضنى القلب وموجعه، أم إنها فحولة الرجل وقوامته؟، لقد جاوزت ما لم يكن يتوقع حتى أصبح يراوده كل حين، وبات ذلك القلب الحزين معلقاً بين الكرخ وبلاد ما وراء البحر المتوسط.

بمن هجع النوّام بتُّ له

بلوعة منه ليلي لست أهجعه

لا يطمئن لجنبي مضجع وكذا

لا يطمئن له مذ بنت مضجعه

ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني

به ولا أن بي الأيام تفجعهما

أجمل الليل ونجومه ونسماته وسكونه غير إنه لا يحسن تذوّق ذلك كله أو يتمتع به، فما إن يغمض له جفن حتى تعاوده الذكرى، فيغض عليه مضجعه فيفزع زائغ البصر، وكأنه ينام على فراش بطائنه من شوك يخزه خزاً كنصل سيف رهيف يطعن في خاصرته فيوقظه حين يهم أن ينسى أين يكون؟ ألستِ كذلك أيضاً؟!!

استودع الله في بغداد لي قمراً

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته وبودي لو يودعني

صفو الحياة وإني لا أودعه

أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته

ومن لا يسوس الملك يخلعه

ما هذا القمر الذي بزَّ به ابن زريق فتيات العالم؟ فلم ير شبيهاً له حتى في بلاد الفرنجة أو بين نساء القوط والبربر، وماذا تخبئ بغداد في خدرها حتى تمنى أن يودع الحياة على ألا يودعه هذا القمر الذي ضنَّ علينا ابن زريق حتى باسمه شحّاً، فلم يجود به؟، وما كل هذا الجمال الباهر الذي جعله ملكاً لم يحسن سياسته وثوب نعيم قد لبسه ثم خُلع منه ففارقه فراق وامق حزين، إلا أن يكون صاحب حظ عاثر وسوء رأي وقرار خاطئ، وكأنه يخط بيديه نصيحة لمن يأتي بعده، ويقطع المسافات تلو المسافات، وقد أسقط من جيوبه أوراقه الثبوتية راحلاً إلى بلاد يتنشق فيها هواءً عليلاً تاركاً وراءه صفحة سوداء لايريد أن يخطر بباله حتى النظر إليها فإما مَنّ فيحمد الله على السلامة، أو أن تتخطّفه المنايا فيكون كمن لم يقطف عنب اليمن ولم يطل بلح الشام.

بالله يا منزل العيش الذي درست

آثاره وعفت مذ بنت أربعه

هل الزمان معيد فيك لدتنا

أم الليالي الذي أمضته ترجعه

في ذمة الله من أصبحت منزله

وجاد غيث على مغناك يمرعه

من عنده لي عهد لا أضيعه

كما له عهد صدق لا أضيعه

ومن يصدع قلبي ذكره

إذا جرى على قلبه ذكري يصدعه

ما أجمل الذكريات حين يسترجعها المرء وقد تلقفتك مراتع الصبا كأحضان الأم الرؤوم وأعادك إلى زمن بعد زمن أين .... وأين؟ وحين يكون بينك وبين من تحب مهامه وفيافي وقفار، وحال بينك وبينه أمواج وبحار يأسرك شوق لا ينفك عنك يكون كقيد السجان لا يبرح أثره في معصم السجين يذكّره بالحرية وفسحة الأمل، فتمر عليك الذكرى معزيةً كوميض برق كلما ناحت حمامة أوغردت قمرية.

لأصبرنّ لدهرٍ لا يمتّعني به

ولا بي في حال يمتّعه

علماً بأن اصطباري مُعقب فرجاً

فأضيق الأمر إن فكرتَ أوسعه

علَّ الليالي التي اضنت بفرقتنا

جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه

وأن تغُلْ أحداً منّا منيته

فما الذي بقضاء الله نصنعه

مسكين يا ابن زريق!! لم تدرِ ماذا خبأت لك الأيام فخاب ظنك فلم تجتمع بمن تحب مرة أخرى فهلكت دونه وهلك هو دونك، ولقد زعموا أنّ ابن زريق وفد على أحد ملوك الأندلس بعد حكايته مع زوجته ليتكسب من شعره فمدحه بقصيدة لم يخلدها لنا الدهر ولم نعلم عنها شيئاً، فكافأه بجائزة ضئيلة لا تساوي شيئاً، فانصرف إلى الخان الذي يسكنه مهموماً حزيناً، وقيل إنّ الملك أراد بهذا أن يمتحن ابن زريق وصبره فسأل عنه بعد أيام فالتمسوه في الخان فوجدوه ميتاً وتحت رأسه رقعة مكتوب فيها تلك القصيدة، وصدق الله حين قال (ولا تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس {.... وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ .....}.

الأحساء

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة