في ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك جلس قارئ الروضة في العراق ويسمونه «الروزه خون» وهو تعبير إيراني يعني قارئ الروضة، جلس على المنبر الموشح بالسواد ليروي حكاية واقعة الطف، وعادة يعرج نحو الأحداث السياسية أو الاجتماعية المعاصرة قبل أن يرحل نحو التاريخ. وكان حديثه تلك الليلة عن الكهرباء في البلد. والكهرباء هي إحدى مشكلات العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 حيث أغرقت حكومة الاحتلال وما بعد الاحتلال بلادنا في العتمة، لكي تزدهر تجارة مولدات الكهرباء!
وبدلا من أن يوجه قارئ الروضة هذا أصابع الاتهام لوزارة الكهرباء التي وصلت ملفاتها إلى لجنة النزاهة للتحقيق في الفساد المالي، وجه أصابع الاتهام نحو «توماس أديسون» مخترع الكهرباء حيث قال، بسببه صرنا نشاهد التلفزيون وما يعرضه من البرامج المحرمة! ثم صاح:
- رددوا معي. لعن الله «توماس أديسون» مخترع الكهرباء!
ردد جمهور الحاضرين من بعده اللعنة على مخترع الكهرباء!
كنت أشاهد هذه التلاوة التاريخية من قناة فضائية دينية، فلولا توماس أديسون لما تمكنت من مشاهدتها وسماع قارئ الروضة هذا، وهو يلعن النور ويبارك الظلام! يلعن النور الذي يبثه عبر شاشات التلفزة في العالم ويبارك الظلام!
عندما كنت أصور فيلمي «المغني» في مدينتي «البصرة» كان يعيقني غياب الكهرباء وإحلال المولدات الكهربائية بديلا عنها، حيث كان ضجيج صوت مولدات الكهرباء في الشوارع والبيوت يحول دون تمكني من تسجيل أصوات الممثلين بشكل نقي! فصرت أهاتف مدير الكهرباء في البصرة أن يمنحني في كل ضاحية أصور فيها، ساعتين من الكهرباء حتى أنفذ مشهداً سينمائياً واحداً. وكنت مصراً أن أنجز الفيلم مهما بلغت الصعوبات!
بعد أن أنهيت تصوير الفيلم وغادرني الممثلون، تجولت وحدي في مدينتي بعد غياب واحد وثلاثين عاماً، وكان علي بالتأكيد أن أزور صالات السينما التي شاهدت على شاشاتها فيلم «مشرب الشاي تحت ضوء القمر» الذي لولا «توماس أديسون» وتحريكه للصورة الثابتة على جهاز «الكنتوسكوب» والذي اخترع الكهرباء لما تمكنت أن أعيش تلك الساعتين من السحر على شاشة السينما لمشاهدة أجمل ما شاهدته في حياتي وهو فيلم «مشرب الشاي تحت ضوء القمر» هذا الفيلم المقتبس عن رواية «فيرن شنايدر» المعنونة مشرب شاي قمر أغسطس» والتي أقتبس عنها جون باتريك مسرحية تحمل نفس الاسم.
صالات السينما في مدينتي أصبحت بين صالة مهدمة بالكامل وبين صالة تحولت إلى مخزن للأثاث البلاستيكية وبين صالة صارت بقايا بناء أتخذ عمال السينما من زواياه المهدمة مكانا لبيع اللحم المشوي أو لبيع الشاي ليلاً.
بقايا الصالة هذه، هي التي شاهدت على شاشتها «مشرب الشاي تحت ضوء القمر» الفيلم الذي ترك متعة في وجداني منذ أيام الصبا. وقفت أمام الصالة المهدمة مثل شخص أستيقظ من حلم مرعب!
وقفت أمام الصالة. ثمة غرفة صغيرة كان يجلس فيها بائع التذاكر. فيها شباك صغير كنا نمد يدنا وفي كفنا سبعين فلساً يأخذها بائع التذاكر ونأخذ منه تذكرة تسمح لنا بدخول صالة يعمها الظلام وتنار شاشتها بالضوء لنشاهد عليها «مشرب الشاي تحت ضوء القمر»
كان في داخل غرفة بيع التذاكر رجل بلحية بيضاء خفيفة وهو يطبخ الشاي.
لم تكن غرفة بيع التذاكر كاملة الجدران فلقد هدمها رجال النظام الجديد الذين أتت بهم حكومة هوليوود لكي يهدموا صالات السينما ويشتموا «توماس أديسون» مخترع الكهرباء ومحرك الصورة الثابتة!
سألت نفسي عن أبعاد اللعبة وغرابتها حقاً. وكنت أبحث عمن يفسر لي المعادلة.
الذين صنعوا السينما في أمريكا هم الذين هدموا صالات السينما في العراق!
والذين أطفأوا الكهرباء في العراق هم الذين اخترعوها في أمريكا!
والذين يشتمون توماس أديسون في العراق هم الذين أطلقوا عليه القديس في أمريكا!
فأين تكمن أبعاد اللعبة.. ولماذا كل هذا الذي يحصل في بلداننا؟!
وقفت أمام صالة السينما. تطلع نحوي الرجل بائع الشاي القابع داخل غرفة بيع التذاكر. سألني من أنت أيها الغريب؟ هل كنت من رواد هذه الصالة؟ أنا بائع التذاكر. أندهش أنني ساكت ومأخوذ، وصافن!
غرفة بيع التذاكر لم تكن مكتملة الجدران حيث طالها التهديم بالمعاول، كانت بجدارين ونصف الجدار وشباك صغير هو شباك بيع التذاكر.
«تفضل عمي، أضيفك أستكان جاي» من أي بلاد أنت؟ أخالك لست من أهل البلاد! هل كنت من أهلها؟ هل صرت مغترباً؟ وهل بت غريبا؟ هل جئت لكي تتذكر؟ كثيرون يأتون إلى هنا يتذكرون! نعم أنا «رزوقي» بائع التذاكر في هذه الصالة؟ لم تعد ثمة سينما. وذاك الذي يبيع اللحم المشوي هو الذي كان يشغل ماكنة العرض. لا نستطيع أن نذهب بعيداً عن المكان، فإننا نحبه. نحب صالة السينما هذه التي كثيراً ما سعدنا بظلامها وضوئها على الشاشة. يصعب أن نفارقها. فاتخذنا من هذه الصالة المهدمة مكاناً للعيش. أنا أبيع الشاي، وذاك الذي يبيع اللحم المشوي فوق منقل الفحم هو الذي كان يشغل الأفلام!
جلست إلى جانبه على كرسي صغير من الخيزران. قدم لي الشاي بالأستكان العراقية، وصار يضحك ويقول كل رواد السينما يأتون عندي ليلاً يشربون الشاي. وكما ترى نحن هنا ليلاً بدون كهرباء، نشرب الشاي تحت ضوء القمر!
sununu@ziggo.nl
هولندا