والحق أنّ الإعلام أصبح من أهم المؤثرات في المجتمعات؛ إذ صار يدخل البيوت بأشكاله المختلفة وبوسائله المتنوعة فصار له من الخطر ما يفوق التعليم المنهجي أو التربية الأسرية، صار الطفل منذ صغره يتلقى جملة من المفاهيم تتسرب إلى ذهنه من جملة مشاهداته، وهذا ما جعل كثيرًا من المربين والمصلحين ينبهون إلى خطر ما يتعرض له الطفل من برامج وهو أمر يهم العالم كله والمجتمعات كلها تحس هذا الخطر ولكنها تتفاوت في أمر معالجة آثاره ودرء مخاطره. إنّ للإعلام تأثيرًا جمعيًّا لا يخطئه الملاحظ، فعلى المستوى اللغوي وهو ما يهمنا هنا يشيع صواب استعمال اللغة أو خطأ استعمالها بسبب ترددها على ألسنة المذيعين أو ضيوف البرامج الحوارية، ومن أمثلة ذلك شيوع كلمة (أريحية) باستعمال المعلقين الرياضيين لها استعمالا خطأً؛ إذ هم يستعملونها بمعنى (الراحة) وليس هذا معناها الذي وضعت له؛ إذ معناها الصحيح ما ينال المضيف من فرح وبهجة ونشاط ظاهر يستقبل به ضيفه، إن الإعلام بيده أن يعلي من شأن اللغة كما أن بيده أن يفسدها ويضعفها وهو ما نرى آثاره.
ولعل ما يعلمه أستاذنا من خطر الإعلام هو ما جعله يخصص له المطلب الخامس من كتابه حيث دعا فيه أستاذنا إلى أن يكون حوارٌ بين اللغويين والإعلاميين، وبيّن أن المشكلة الرئيسية في غياب الوعي بأهمية اللغة العربية الفصيحة، وبأنا نهدر ميزة فريدة لهذه اللغة وهي أصالتها واتصالها، ومن هنا يتبين أن الفصيحة تقوية لأواصر الأمة أما المحليات والعاميات فتمزقها وتفتتها، ولذا نحس أن بعض القائمين على وسائل الإعلام أعداء للعربية الفصيحة، فليس لها من الوقت إلا أقله، وإن قدمت ففي صورة سيئة منفرة. وأما البرامج ذات الحضور الكثيف فلغتها العامية التي ربما خالطتها ألفاظ أعجمية، وربما تجد البرامج الثقافية تعبث بها العامية، ويجاهر بعض الإعلاميين والأدباء بنفورهم من الفصيحة وحبهم للعامية بدعوى قربها من عامة الناس ودقة تصويرها أحوالهم. ومن الغريب أن يتوجه ذو الشأن والثقافة بعامية إلى جمهور عريض في العالم العربي والإسلامي ذي العاميات المتباينة واللغات المختلفة، ولم تعد المشكلة ما يقع من أخطاء في لغة الإعلاميين بل الأمر أدهى وأمرّ، فحياة الفصيحة في خطر، إذ نجد من يكيد لها من أهلها، ولم يكن البعد الاستراتيجي للغة ضمن اهتمامات السياسيين أو المخططين العرب، وكان الظن أن الاستعمار يضعف العربية ثم تبين أن أصحاب القرار هم السبب بفتنتهم بلغة المستعمر، حتى في إبان المد الوحدوي كان الهم سياسيًا فلما انهار استحرّت التجزئة بتشويه الوجه الثقافي بمحاربة الفصيحة وتمكين العامية، وشكك في الثوابت وزيف التاريخ وبعثت الطائفية والعرقية ونُشرت لغات ميتة، وهكذا نجد الإعلام يرفض تعميم الفصيحة، بل جندت لحربها فضائيات عدة أعلت من شأن العاميات بمظاهر باهرة، وهكذا ندخل عصر العولمة بلا سلاح، إن وضع الإعلام صورة من الوضع اللغوي المتردي، ولعل تراجع الفكر الوحدوي قد أضر بفكرة سيادة الفصحى، وعصرنا الحاضر كعصر الاستعمار الذي سعى فيه إلى نشر لغته، إذ الدعوة لتعليم الأطفال اللغة الإنجليزية وانخراط كثير من أبنائنا في المدارس الأجنبية هو ما كان يسعى إليه المستعمر. ولم يكتف الآن الإعلام بتشجيع العاميات بل انتصر لها واعتمدها، فبرامج الثقافة بالعامية وصوت أفلام الصور المتحركة بالعامية، بل قرئت الأخبار بها، ولم تعد إجادة اللغة شرطًا في المذيع، وهكذا صارت البلاد العربية كيانات مختلفة تتوجه إلى كل المشاهدين والمستمعين باللهجات المحلية، وإن الأمر المطروح اليوم هو أمر دولي، فالعرب جزء من العالم جنوبه، وهم معنيون بما يهدده من عولمة. ودول العالم تتكتل مسفرة عن أهدافها السياسية والاقتصادية، وقربت العنكبية بين العوالم، فجعلت الضعيف لقمة للقوي بتقنيته ومعلوماته، وإن الدول النامية مفتقرة إلى المعلوماتيّة. ويرى أستاذنا أن على العرب أن تؤسس عقلانيا لما ينفع شعوبها وإن اختلفت أنظمتها السياسية، وهم يطمحون إلى سوق مشتركة فلابد لها من لغة مشتركة هي الفصيحة؛ إذ الانسجام اللغوي من أهم وسائل النجاح الاقتصادي، وأما في مجال المعلوماتية فالوضع مفزع في ظل الشتات والفرقة، وأهم تحدياته اللغة التي هي سبيل التعبير عن المعلوماتية. ولن يستفاد من الحواسيب إلا بتعريبها بلغة موحدة، ومن هنا فعلى الإعلام أن يعزز في النفوس مكانة اللغة الفصيحة بأن يفسح المجال لها، وهي لغة صالحة للجمهور يحسن الإنصات إليها ويتلذذ بها متى أُحسن استعمالها، وعلى الجهات الرسمية أن توفر السبل الكفيلة لتحقيق ذلك من أموال للدعاية والرعاية، ولابد من إصدار تشريعات محفوفة بالنفاذ تصونها من العبث ومزاحمة الأجنبية لها، ومن الغريب أن تنصّ دساتير العرب على أنها اللغة الرسمية ثم لا تكفل ذلك بما يقتضيه، وآخر الأمر أن المستقبل الاقتصادي أو العملي التقني لن يزدهر بلا لغة موحدة والفصيحة هي تلك اللغة المرشحة.
الرياض