تقوم جدلية « المشيئة الثقافية» التسيير والتخيير على الصراع بين استقلال مشيئة الإرادة الثقافية للذات الصانعة ومشيئة وصاية ا لفاعل الغيبي الذي يحوّل الذات الثقافية من «مؤثِر» إلى «متأثر». لكن: هل صراع مشيئة استقلال الذات الثقافية مع مشيئة وصاية الفاعل الغيبي هو صراع حقيقي يطرح لنا مسألة تحرير الذات الثقافية من استعمار مشيئة الفاعل الغيبي؟، حقيقي بمعنى وجود إمكانية التحقيق؛ تحقيق انفصال الجزء عن الكل لتشكيل كل إضافي خالص البنية، تحقيق الاكتفاء الذاتي لنوع المنهج والسلطة والدستور، وإمكانية التحقيق تتضمن أيضا واقعية الفصل بين المشيئات الممتزجة ومدى ارتضاء طبيعة الامتزاج بتطبيق قانون الفصل، لأن كل ما لا يمكن أن يحمل إمكانية تحقق وتحقيق لا يمثل مصدر صراع، ولذلك نحن هنا أمام سؤالين: ما مدى وجود إمكانية تحقيق انفصال استقلال وفصل تحرير بين المشيئات المختلفة. أم أن الصراع غير حقيقي؟ وغير حقيقي بمعنى عدم وجود إمكانية التحقيق للاستقلال الخالص لمشيئة الذات المفردة دون تبعية مشيئة وصاية الفاعل الغيبي، وعدم إدراك الذات الثقافية بأن بعدها عن وصاية مشيئة الفاعل الغيبي لا يمثل تحقيقا لاستقلال مشيئتها هو الذي يدفعها إلى جحيم الخلاف مع المقتضى الذي هو جزء من تكوينها واستبدال مشيئة بمشيئة أخرى أكثر طغيانا واستعمارا لمشيئة ذاتها؟. ليس بالضرورة أن يكون مصدر الصراع هو «الحق والباطل» أو « الخير والشر» بل قد تكون « العدالة في توزيع الاستحقاقات» أو «إعادة التوازن لفواعل التأثر والتأثير» وصراع المشيئات يدخل ضمن البندين الآخرين. و من هنا تبدأ جدلية «القدرية الثقافية» على مستويين المستوى الأول من الذي يؤثر في تشكيل الذات الثقافية، والمستوى الثاني من الذي يؤثر في صناعة الإنتاج الثقافي.
على مستوى الذات الثقافية من الذي يتحكم في تشكيل الذات الثقافية المستقلة هل هي مشيئة الذات أم مشيئة وصاية الفاعل الغيبي؟ من الذي يؤثر في المنهج التفكيري والإنتاجي للذات الثقافية مشيئتها المستقلة أم مشيئة وصاية الفاعل الغيبي؟
وعلى مستوى «الإنتاج الثقافي» من الذي يجب أن يتحكم في إنتاجه « مشيئة استقلالية الذات الثقافية أم مشيئة وصاية الفاعل الغيبي»؟ من الذي يمثله الإنتاج الثقافي «مشيئة استقلالية الذات الثقافية أم مشيئة وصاية الفاعل الغيبي»؟
أقصد باستقلالية مشيئة الذات الثقافية الاكتفاء الذاتي الذي يحقق لها الاستغناء عن مشيئة وصاية الفاعل الغيبي من خلال استطاعتها على تنفيذ ثلاث قدرات؛ أن تملك الذات القدرة على تأسيس منهج فكري يخرج عن منهج مشيئة وصاية الفاعل الغيبي، وأن تملك القدرة على تمثيل سلطة إضافية فوق سلطة مشيئة وصاية الفاعل الغيبي كي تؤثر وتحكم، أن تملك القدرة على «دستَرة أفكارها». و تلك القدرات هي التي تتميّز بها مشيئة وصاية الفاعل الغيبي. أما المقصود « بمشيئة وصاية الفاعل الغيبي» فهي «مجموع المعلوم الذي يشكل قاعدة البيانات التي تتبرمج من خلالها المدونة التي تتحكم في تفكير الفرد وأسلوبه وأفعاله وردات أفعاله وتفرض عليه خارطة طريقه».
والمعلوم هنا يقصد به « اعتبارات خصوصية الجماعة والمجتمع التي يتشكل في ضوئها الدستور الفكري للمجتمع لمنهجّة إنجازات أفراده والتحكم في طريقة تفكيرهم.»
و تتكون تلك الاعتبارات من مرجعيات دينية وتاريخية وعرفية، وكل معلوم يملك تأثيرا وتوجيها خاصا لفكر وسلوك المتلقي يمثل مشيئة. وكل فرد حتى يحقق شرعية انتمائه للجماعة والمجتمع هو مُلّزم بالخضوع لمشيئة وصاية الفاعل الغيبي، وكل فرد يحاول تشكيل «مشيئة مستقلة» عن «مشيئة وصاية الفاعل الغيبي» عن طريق «الردّة عن إيمانه بتلك المشيئة» بالانتقال أو التحوّّل يهدد شرعية انتمائه للجماعة والمجتمع ويرسم دائرة نبذه الاجتماعي. و الحديث عن قدرية المشيئة الثقافية لا يتناول الكفاية الضمنية كجوهر لقيمة المشيئة فقط بل يتناول «مصادر تحقيق الكفاية» وعلاقتها بتراتبية حلقة ثنائية التأثر والتأثير. وقد يعتبر البعض أن فلسفة التراتبية في ثنائية التأثر والتأثير في جدلية المشيئة هي مركز الصراع في « قدرية الذات الثقافية» التسيير والتخيير،
إن اعتقاد أحقية وصاية مشيئة الفاعل الغيبي على استقلالية مشيئة إرادة الذات الثقافية فهو يلغي مؤثِر الحضارة في نشأة المنجز،لأنه يحوّل الذات الثقافية إلى آلة مبرمجة لتنفيذ برنامج معدّ وهو ما يعني قطع التيار الحضاري عن الذات الثقافية.
كما أن اعتقاد أسبقية مشيئة استقلال إرادة الذات الثقافية على وصاية مشيئة الفاعل الغيبي فهو يلغي مؤثر الاقتضاء في التحكم في نوع المنجز.
وجدلية القدرية الثقافية أو جدلية التسيير والتخيير في صناعة المنجز الثقافي هي حسبما أعتقد ليست معضلة لإعاقة الإنتاج الثقافي أو يجب أن لا تكون هكذا،بقدر ما هي إشكالية في التحكم في استراتيجية الأوليات والأولويات التي تؤثر في صناعة المنجز الثقافي وفاعلية الإصلاح أو التغيير، وبالتالي نستطيع أن نحكم على الحركة المتداخلة بين المشيئات بعيدا عن «ظنيّة الصراع» وقريبا من «إعادة عدالة توزيع لاستحقاقات بين المشيئات « وفق استراتيجية الأوليات والأولويات.
في البدء «لا مشيئة كاملة الاستقلال « أو هكذا أعتقد، وعندما أقول «لا مشيئة كاملة الاستقلال» فأنا أقصد المستويين؛مستوى تشّكل الذات ومستوى تشكيل الإنتاج. وعندما أقول «لا مشيئة كاملة الاستقلال» فأنا لا أقر «بكمال طبيعة استعمار مشيئة وصاية الفاعل الغيبي» ولا أقر كذلك «بكمال حتمية استقلال مشيئة الذات الثقافية»؛لأن الذات الثقافية تتشكل وفق «الخبرة المتراكمة» و»الخبرة المتراكمة بوصفها معلوم» فهي «تمثل مشيئة وصاية الفاعل الغيبي» وأي إنكار لمرجع تشكيل الذات الثقافية يعني تصفيرها وإعادتها إلى «الطبيعة الحيوانية». و في المقابل هل تطوير الخبرة التي شكّلت الذات الثقافية ومنحها سلطة إضافية من قبل تلك الذات فوق سلطة خبرة التشكيل يمنحها مشيئة الاستقلال عن مشيئة وصاية الفاعل الغيبي؟. والسؤال السابق ينقلنا إلى «صورية الاستقلال» يعني هل كل مستقل يساوي استقلال؟. بمعنى هل يمكن اعتبار الذات الثقافية التي انفصلت عن مشيئة وصاية الفاعل الغيبي بالانتقال إلى مشيئة وصاية فاعل غيبي آخر بالخلاف والاختلاف أنها حققت استقلال مشيئتها؟
قد يُعتقد أن مركز المشيئة المستقلة «ذات الاختيار للانتقال والانتقاء» وبالتالي فاختيار الذات الثقافية الانتقال من مشيئة وصاية الفاعل الغيبي إلى مشيئة وصاية فاعل غيبي آخر بالخلاف والاختلاف هو تحقيق لاستقلال مشيئة الذات الثقافية لأنه مبني على «حرية الردة الثقافية»؛ أي حرية الرفض والقبول والتبديل لوصاية مشيئة دون مشيئة. في حين أن هناك اعتقادا آخر يرى أن استبدال الذات الثقافية مشيئة وصاية الفاعل الغيبي بمشيئة وصاية فاعل غيبي آخر بالخلاف والاختلاف لا يحقق استقلالية مشيئة الذات الثقافية وإن وفّر لها إحساس المستقل؛لأن الانتقال من مشيئة وصاية فاعل غيبي إلى مشيئة وصاية فاعل غيبي آخر رغم الخلاف والاختلاف بين المشيئتين لا يلغي حكم استعمار مشيئة الذات الثقافية،ولذلك ليس كل مستقل يساوي استقلال.
وبذلك لا يوجد استقلال حقيقي لمشيئة لذات الثقافية؛لأنها تتشكل في ضوء مشيئة وصاية الخبرة المعرفية المتراكمة،و تتطور بالانتقال سواء عبر الخلاف أو الاختلاف إلى مشيئة وصاية خبرة معرفية متراكمة جديدة. فالذات الثقافية لا تستطيع أن تمثل عبر إنتاجها مشيئة إصلاح أو تغير وتغيير باستقلاليتها بل بواسطة مشيئة وصاية الفاعل الغيبي سواء بالتبعية أو بالانتقاء والانتقال.
وهكذا يصبح التخيير عبر متعدد معلوم لا يمثل مشيئة استقلالية للذات الثقافية أو «هكذا أعتقد».
جدة